الأحد، 20 ديسمبر 2009

أردوغان في أول حديث لصحيفة عربية : لو انتهكت إسرائيل أجواء تركيا ستتلقى ردا مزلزلا



همى هويدى -

فهمي هويدي خلال حديثه مع رجب طيب أردوغان
شارك

عشية سفره إلى واشنطن قال رجب طيب أردوغان إن الوضع فى غزة ضمن جدول أعمال زيارته. مشيرا إلى أن الوضع فى القطاع لا ينبغى السكوت عليه. كما أعرب عن أمله فى أن تكون الزيارة التى سيقوم بها الرئيس حسنى مبارك إلى أنقرة يوم 15 من الشهر الحالى بمثابة نقطة تحول فى علاقات تركيا ومصر. وتمنى فى حديث مطول تطرق فيه إلى أمور عدة أن ينتهى الانقسام العربى حتى تتمكن الأمة العربية من الاحتشاد لمواجهة التحديات الكبيرة التى تواجهها.

ــ1ــ
كان ذلك هو لقائى الثانى مع الرجل. إذ التقيته فى المرة الأولى عام 1994 حين انتخب رئيسا لبلدية استانبول ممثلا عن حزب الرفاه. وجرى الحوار آنذاك حول مشكلات المدينة ومحنتها، بعد أن شاع الفساد فى إدارتها وتدهورت مرافقها. لم يكن يتحدث كعمدة منتخب فحسب، وإنما كعاشق للمدينة وحافظ لشوارعها، التى اضطرته ظروفه العائلية فى سنه المبكرة لأن يتجول فيها بائعا للبطيخ والسميط والمياه الغازية لكى يوفر مصروفات تعليمه. التى عجز أبوه عن احتمالها. إذ كان الأب الذى ينحدر من أصول جورجية يعمل جنديا بسيطا فى خفر السواحل. وهى المهنة الوحيدة التى أجادها منذ نزحت أسرته من شواطئ البحر الأسود لكى تستقر فى استانبول بعدما قتل الجد فى سنة 1916 أثناء صد الحملة الروسية والأرمنية التى استهدفت أراضى الدولة العثمانية فى سنوات أفولها. ولا أعرف إن كان لقب الأسرة له علاقة بهذه الخلفية أم لا، ولكن صاحبنا «الطيب» ظل يعرف طوال الوقت باسم «أردوغان» الذى يعنى فى اللغة التركية «الفتى الشجاع» («أر» تعنى القوى أو الشجاع و«دوغان» هو الطفل).

استطاع الطيب أن يكمل تعليمه حتى التحق بإحدى مدارس «إمام وخطيب»، شأنه فى ذلك شأن غيره من أبناء الأسر المتدينة. لكنه تخصص فى الاقتصاد وإدارة الأعمال، وتخرج من المعهد العالى الذى صار الآن جامعة مرمرة، ثم ألقى بنفسه فى خضم العمل السياسى، تاركا ملاعب كرة القدم التى لمع نجمه فيها، وتحول إلى عنصر ناشط فى حزب الرفاه الإسلامى الذى أسسه أستاذه نجم الدين أربكان، الأمر الذى أوصله إلى منصب عمدة استانبول، وقاده بعد ذلك إلى السجن فى سنة 1998، حيث أمضى فيه ستة أشهر بعد اتهامه بالإساءة إلى العلمانية.

خمسة عشر عاما مضت بين اللقاءين الأول والثانى، تحول فيها من عضو ناشط فى حزب الرفاه وعمدة استانبول إلى زعيم لحزب آخر باسم العدالة والتنمية وعمدة لتركيا كلها وأول «باشبكان» للجمهورية التركية الثانية(«باش» تعنى الرأس و«بكان» هو الوزير، وباشبكان هو رئيس الوزراء».

ذكرته بلقائنا الأول فابتسم ابتسامة خفيفة تليق بمقام باشبكان بلغ من العمر 55 عاما، ورد بالعربية قائلا «أهلا وسهلا». وكأنه بذلك دعانى إلى الدخول فى الموضوع.

ــ2ــ
كنت أعلم أن مستشاريه وأجهزة وزارة الخارجية منهمكون منذ أيام فى التحضير لزيارته إلى واشنطن، فسألته عن الهدف منها. وعما إذا كانت زيارته قبل أسابيع معدودة لكل من إيران وباكستان لها علاقة بهذه الرحلة. فقال إن تركيا الحالية ليست مشغولة بشئونها الداخلية وعلاقاتها الثنائية بالولايات المتحدة فحسب، ولكنها أيضا مشغوله بمحيطها وثيق الصلة بانتمائها وعمقها الإستراتيجى. وهذا الانشغال جعلها حاضرة فى العديد من الملفات الإقليمية والدولية. فهى حاضرة فى ملفات الشرق الأوسط. وهى موجودة فى أفغانستان وترأس القوات الدولية هناك، ثم إنها معنية بالموضوع الإيرانى وتداعيات البرنامج النووى الذى يثار حوله لغط شديد فى الساحة الدولية. وعلاقاتها مع أرمينيا لكى تنجح أصبحت وثيقة الصلة بحل المشكلة القائمة بينها وبين أذربيجان بخصوص النزاع حول مقاطعة «ناجورنو كارباخ» التى اجتاحتها القوات الأرمنية قبل سنوات قليلة، كما أن الوضع فى قبرص يدخل فى صميم اهتمامنا ليس فقط بسبب قبرص التركية. ولكن أيضا لأنه مطروح فى سياق علاقتنا باليونان. وإضافة إلى كل ذلك فموضوع علاقتنا مع الاتحاد الأوروبى له مكانه فى جدول الأعمال.

قلت له إن من بين تلك العناوين المهمة، تحتاج ملفات الشرق الأوسط إلى بعض التفصيل، خصوصا ما تعلق منها بفلسطين وإسرائيل وإيران. هز رأسه موافقا وقال إن أكثر ما يقلقه فى الشأن الفلسطينى حاليا هو وضع قطاع غزة، الذى تحول إلى سجن كبير مفتوح، يقف الجميع متفرجين عليه وغير مكترثين به. وهو أمر لا ينبغى السكوت عليه ليس فقط من جانب دول المنطقة، بل أيضا من جانب العالم المتحضر الذى يحترم حقوق الإنسان. فقد كان العدوان على غزة جريمة ضد الإنسانية بكل المقاييس، استخدمت فيها القوات الإسرائيلية الفوسفور الأبيض ضد المدنيين العزل.

وبعد العدوان الذى أدى إلى تدمير القطاع وقتل 1500 من سكانه وإصابة خمسة آلاف بجراح، عقد اجتماع شرم الشيخ الذى اتفق فيه على إعمار ما تم تدميره، وخصصت لذلك ملايين الدولارات، إلا أن القرار لم ينفذ. وبقيت خرائب غزة كما هى. والأدهى من ذلك أن الحصار استمر بحيث قطعت عن القطاع الحاجات الأساسية للناس. وقد سمعت أنهم اضطروا لاستخدام الأنفاق لتهريب الأغنام فى الاحتفال بعيد الأضحى. وهذا الوضع البائس وغير الإنسانى يتطلب بذل جهد خاص لعلاجه، ولذلك كان من الطبيعى أن يدرج على قائمة جدول أعمال الزيارة.

أضاف السيد أردوغان قائلا: هناك أمران آخران يشغلاننا فى هذا السياق، الأول هو أن وقف الاستيطان من جانب إسرائيل الذى يعد شرطا ضروريا للعودة إلى مفاوضات السلام. والثانى هو أننا نقوم بدورنا فى التوسط بين إسرائيل وسوريا. وقد عقدت من الآن خمس جولات من المفاوضات بين الطرفين، وحين قلت له إن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو قال إنه لم يعد مطمئنا إلى وساطة تركيا فى هذا الصدد، ويفضل وساطة فرنسا، علق قائلا: إننا توسطنا بناء على رغبة الطرفين، وإذا تلقينا هذه الرغبة مجددا فسوف نستجيب لها. وإذا لم نتلقها فلن نقوم بأى مبادرة من جانبنا.

(٣)
الحديث جرنا إلى الوضع الراهن للعلاقات التركية ــ الإسرائيلية، وقرار أنقرة منع إسرائيل من المشاركة فى مناورات «نسر الأناضول» السنوية مع الجيش التركى. فقال إنه لم يكن معقولا أن تجتاح إسرائيل غزة وتفتك بشعبها ثم نقول لجيشها تعال تدرب عندنا. ذلك أننا حكومة منتخبة جئنا بإرادة شعبنا، ولا نستطيع أن نتحدى مشاعر الشعب التركى الذى صدمه ما جرى أثناء العدوان على غزة. وكان احترام هذه المشاعر له دوره الحاسم فى خلفية قرارنا. فى ذات الوقت فإننا أردنا به أن نبلغ الإسرائيليين أيضا بأنهم لا يستطيعون تحت أى ظرف أن يستخدموا علاقتنا بهم ورقة فى عدوانهم على أى طرف ثالث. ذلك أننا فى هذه الحالة لن نقف محايدين أو مكتوفى الأيدى.

قلت إن لدى معلومات تشير إلى أن إسرائيل كانت قد قامت باختراق الأجواء التركية لكى تقوم بعملية تجسس ضد إيران، وأن هذه الخطوة استفزت القيادة التركية، وكان لهذا الغضب دوره فى قرار إلغاء اشتراكها فى المناورات. وقد علق على هذه الملاحظة قائلا: إن المعلومة غير صحيحة. وبصوت حاسم أضاف: لو أن إسرائيل فعلت ذلك فإنها ستتلقى منا ردا مزلزلا.

سألته عن نتائج زيارة بنيامين بن اليعازر وزير التجارة والصناعة الإسرائيلى الذى اصطحب معه 20 من كبار رجال الأعمال الإسرائيليين، وذكرت له أن بن اليعازر حين كان قائدا لإحدى وحدات الجيش فى حرب عام 67 أمر بقتل 70 من الأسرى المصريين بعد اعتقالهم، وكانوا خليطا من الضباط والجنود.

رد الباشبكان قائلا: إن الرجل زارنا باعتباره وزيرا، وما فعله أثناء حرب ١٩٦٧ أمر يخص الحكومة المصرية، وقد تمت الزيارة فى إطار الاتفاقات المعقودة بين البلدين، وبعض هذه الاتفاقات لم تنفذها إسرائيل. سألته عما إذا كانت هذه الاتفاقات قد تمت فى عهد حكومة حزب العدالة والتنمية، فقال إن حكومته عقدت اتفاقا واحدا مع إسرائيل خلال السنوات السبع الأخيرة، وهى خاصة بشراء طائرات بغير طيار، وهذه لم تف بها حكومة تل أبيب وقد اضطررنا إلى استئجار تلك الطائرات لحاجتنا إليها، وأمام إسرائىل، مهلة بقى منها 40 يوما (ابتداء من الخميس 3/12)، إذا لم ينفذ فإنه سيفسخ، أما الاتفاقات الأخرى فكلها عقدت قبل عام 2002.

كنت قد علمت أن مستشار الأمن القومى الإيرانى ورئيس وفدها لمباحثات البرنامج النووى سعيد جليلى قد وصل إلى أنقرة حاملا رسالة إليه، ولأن وزير الخارجية الدكتور أحمد داود أوغلو كان فى طهران قبل أيام معدودة فقد استنتجت أن الأمر له علاقة برحلته إلى واشنطن، وحين سألته فى هذه النقطة قال إن العلاقات الوثيقة بين تركيا وإيران ليست جديدة وقد وثقتها اتفاقية «شيرين» التى عقدت بين البلدين فى عام 1939، إذ بيننا تاريخ مشترك فى الثقافة والفنون إضافة إلى علاقاتنا الإيمانية.

(لاحظ إنه لم يذكر الإسلامية ربما تحسبا للمحاذير القانونية التى يستخدمها غلاة العلمانيين ضده)، وأضاف أنه فضلا عن ذلك فالشأن الإيرانى أصبح من صميم عناصر الأمن القومى التركى، وإضافة إلى مشروعها النووى الذى نؤيده فى استخداماته السلمية، فهى موجودة فى العراق وأفغانستان ومطلة على باكستان ودول آسيا الوسطى (التى تصنف سياسيا ضمن العالم التركى) فى الوقت ذاته فإيران هى المصدر الثانى الذى نعتمد عليه فى الغاز بعد روسيا، لذلك فإن استقرار إيران أمر يهمنا للغاية وتوتر علاقاتها بالولايات المتحدة والغرب لابد أن يقلقنا. ولذلك فمن الطبيعى أن يستمر التشاور والتفاهم بيننا ولا غرابة فى أن يكون الملف الإيرانى مدرجا ضمن جدول أعمال زيارة واشنطن.

4 ــ
كان السيد أردوغان قد صرح فى مؤتمر صحفى عقب زيارته لإيران بأن تعاون البلدين قادر على أن يملأ الفراغ فى المنطقة، وحين طلبت منه إيضاحا لذلك قلت إن هذا الجهد يظل غير كاف ما لم تنضم إليه مصر، لتصبح الضلع الثالث فى مثلث القوة فى الشرق الأوسط.

وهو يعقب على كلامى قال إن التفاهم بين تركيا وإيران قطع شوطا بعيدا فى احتواء أمور كثيرة محيطة بالبلدين علما بأنهما أصبحا هما الأكثر تأثيرا فى المنطقة، وحجم التبادل التجارى بيننا 10 مليارات دولار الآن، نأمل فى أن يصل إلى 30 مليارا خلال فترة وجيزة، وما أقصده أن البلدين فى وضع يسمح لهما بالقيام بدور كبير فى الشرق الأوسط، دون أن يتدخل أى منهما فى الشئون الداخلية لأية دولة أخرى.

أما مصر ــ أضاف ــ فهى الدولة العربية الكبرى التى لا غنى عن دورها وثمة تفاهم طيب بيننا كان له إسهامه فى وقف العدوان على غزة، ولدينا تعاون اقتصادى جيد معها، لكننا نتطلع إلى زيارة الرئيس مبارك فى الخامس عشر من شهر ديسمبر الحالى، وأملنا كبير فى أن تحقق تلك الزيارة طفرة نوعية تنقلنا إلى عهد جديد فى مسيرة التعاون التركى ــ العربى.

عند هذه النقطة قطع أردوغان كلامه وقال إنه بعد زيارته الأخيرة إلى ليبيا أدرك أن الخلافات العربية استفحلت لدرجة أصبحت معها بحاجة سريعة إلى الاحتواء وأن الأمل معقود على الدول العربية الكبيرة أن تلعب دورا فى هذا الصدد.
عندئذ قلت: بعد إلغاء تأشيرات الدخول مع سوريا أولا ثم الأردن وبعد ليبيا وألبانيا، ما هى خطوتكم التالية فى هذا الاتجاه؟

فى رده قال إن تركيا أمضت عقودا وهى غير قادرة على مخاطبة جيرانها، وقد اختلف الأمر تماما بما يعادل 180 درجة حيث مدت جسورها وأياديها إلى الجميع وحلت كل مشاكلها المعلقة مع الجيران ونحن نتطلع إلى يوم نتفق فيه على تأشيرة واحدة إلى كل الدول العربية، كما حدث مع أوروبا التى تسمح تأشيرة «شنجن» لزائرها بأن يتجول فى كل بلدان القارة باستثناء إنجلترا.

قلت: هل هذا التوجه من إفرازات سياسة «العثمانية الجديدة»؟

قال: هذا المصطلح مغلوط ولا أحبذ استخدامه، فضلا عن أنه تعبير خاطئ يبتسر الماضى وينتقص من قدره. كما أنه يستدعى إلى الذاكرة مرحلة اندثرت ولا سبيل إلى إحيائها، وإن جاز لنا أن نتعلم دروسها ونستفيد منها. ونحن لا نسعى إلى إقامة مستقبل رومانسى يدغدغ مشاعر الناس لكننا نسعى إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من التعاون الاقتصادى والتجارى المشترك لأن تبادل المصالح على نحو متكافئ يفتح الباب لاستقرار التعايش والسلام بين الشعوب، وهذه السياسة هى التى مكنت تركيا من تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية، لأنها لم تكن تعتمد على جهة واحدة فى تعاملاتها وإنما وزعت أنشطتها على دائرة واسعة فى الدول فتنوعت أسواقها ومن ثم تنوعت مواردها الاقتصادية.

5 ــ
كنت قد بعثت مسبقا إلى مكتبه بالمحاور التي وددت أن يدور حولها الحديث وأوردت محورا يتعلق بعلاقة حكومته بالجيش الذى ظل يعد القوة الحقيقية صاحبة القرار فى تركيا منذ وصول الكماليين للسلطة وإلغاء الخلافة الإسلامية فى عشرينيات القرن الماضى، وهى العلاقة التى أصبحت محل لغط فى العام الأخير بعد اكتشاف ضلوع بعض قياداته فى منظمة أرجنكون السرية، وهى التى كانت وراء الكثير من الاغتيالات وأعمال الفوضى فى البلاد، خصوصا أن وثيقة عثر عليها مؤخرا تحدثت عن الإعداد لحملة اغتيالات ومظاهرات استهدفت إسقاط حكومة حزب العدالة.

كذلك كنت أعلم أن السيد أردوغان بصدد عقد اجتماع مع قيادات الجيش لمناقشة تطورات الموضوع بعد استدعاء بعض قادة أسلحته السابقين للشهادة أمام محكمة مدنية لأول مرة فى التاريخ التركى المعاصر، لكن كبير مستشاريه قال لى إنه يخشى أن يساء فهم الكلام فى هذا الموضوع الحساس، وقد يظن البعض أن السؤال موحى به من قبل فريق أرودغان للتأثير على مسار الأحداث وقد قدرت حساباتهم الدقيقة وسألت رئىس الوزراء عن ملف منظمة أرجنكون فرد بإجابة مقتضبة قال فيها إن الأمر كله أمام القضاء ولا يجوز له قانونا أن يعلق على قضية معروضة على القضاء قبل أن يفصل فيها.

حاولت أن ألتف حول الموضوع فسألته عن عدد مرات محاولات الاغتيال التى تعرض لها (معلوماتى أن إحداها كشفت فى الشهر الماضى) فقال إن الذى لا يعرفه من تلك المحاولات أكثر من الذى يعرفه، وإن الذى يعرفه لا يذكر عدد المرات فيه.

غيرت الموضوع فى النهاية وسألته عما إذا كان متفائلا بالانضمام إلى الاتحاد الاوروبى رغم أن القوى المعارضة لذلك تتزايد فى أوروبا، فقال إن حكومته سمعت الكثير من الملاحظات خلال السنوات السبع الماضية لكن ذلك لم يثنها عن المضى فى الإصلاحات السياسية ومن ثم فغاية ما يمكن أن يقوله إنه متفائل بحذر.

كنت قد تجاوزت التسعين دقيقة التى خصصت لى ونبهت إلى أن معاونى الباشبكان ينتظرونه فى حجرة مجاورة لإتمام مناقشة ملفات الرحلة إلى واشنطن، ولاحظت أنه بدأ ينظر إلى ساعته، فطويت أوراقى وانصرفت مؤجلا بقية أسئلتي إلى لقاء ثالث أرجو يتأخرعن عام ٢٠١٢، حين يرشح أردوغان نفسه رئيسا للجمهورية التركية. وهى المعلومة التى أصبحت أكبر سر معلن فى أنقرة

فاروق جويدة يكتب: غياب النخبة المصرية.. مسئولية من؟



فاروق جويدة -




كلما ظهرت فى مجتمعنا ظواهر سلبية فى الفكر أو السلوك أو الثوابت أنظر حولى باحثا عن طبقة قديمة كانت صاحبة دور ورسالة وهى ما كنا نسميه النخبة.. وهذه النخبة لا تعنى فقط مجموعة من الناس يمثلون قشرة المجتمع فى الفكر والرؤى ولكنها تمثل ضميره الحى وإيمانه العميق بكل قيمة وقدرتها على أن تنير له الطريق حينما يشتد سواد الليل وتعصف به متغيرات الزمن والأحداث.

فى مواقف كثيرة كنت أبحث عن هذه النخبة التى غابت خلف سحابات واقع قبيح تشوهت فيه كل الأشياء فى البشر والسلوك والقيم والأماكن ولقد طاردتنى هذه الخواطر وأنا أتابع ما حدث بين مصر والجزائر بسبب مباراة فى كرة القدم وتساءلت أين النخبة المصرية العريقة وسط هذا الصخب المجنون.

لا أحد يعرف ما هى أسباب غياب هذه النخبة هل هو واقع اقتصادى وإنسانى شرس فرض عليها صورة من صور الانكفاء على الذات.. أم أنه الخلل الاجتماعى الذى وصل بها وبنا إلى القاع وفرض عليها أشكالا متنوعة من البشر حيث التقى المال مع الجهل مع السلطة.. أم أنه الواقع السياسى الذى حاول إجهاض كل شىء حتى يفرض صورا للتراجع والانهزامية والسكون ويظل مسيطرا حتى ولو تآكل كل شىء فيه.. أم أنه المجتمع الاستهلاكى الذى وضع احتياجات الإنسان فوق كل اعتبارات الفكر والإبداع والتميز.

هذه النخبة المصرية العريقة هى التى وضعت أسس التقدم والتحضر فى هذا الجزء من العالم ولاشك أن مصر صنعت هذه النخبة على عينها ولم تأت إليها بالمصادفة.. ولعل هذا ما جعل مصر ــ المجتمع والبشر ــ يحتلون مكانة خاصة فى السياق الإنسانى علما وثقافة وحضارة وسلوكا.. لا أحد يعرف متى بدأ تشكيل وتكوين هذه النخبة لأنها مثل الأنهار العظيمة تتعدد منابعها وروافدها ولكنها حين تكمل رحلتها تختار مجرى واحدا تندفع فيه بكبرياء وشموخ لا نعرف تماما من أين جاءت المياه.. ولكننا فقط ندرك قيمتها..

هل بدأ تكوين هذه النخبة مع مشروع محمد على التنويرى فى هذه الانطلاقة التى حملت مصر دون غيرها إلى آفاق التقدم والمعاصرة فكان جيشها منافسا شرسا للقوى الأجنبية السائدة فى ذلك الزمان.. هل جاءت مع الالتحام مع الغرب فى تجربة حضارية مذهلة.. هل جاء ميلاد هذه النخبة مع حركة الاستقلال الوطنى بكل ما حملته من مظاهر التغيير والتقدم؟ ومتى كان بزوغ هذه النخبة فى سماء مصر هل كان مع الأوبرا ومجلس شورى النواب والصحافة والمسرح ودار الكتب أم كان مع البعثات الخارجية بكل تنوعها وثرائها.. أم جاء مع جامعة القاهرة وبداية قرن جديد من الزمن كان من أفضل مراحل ازدهار هذه النخبة وعلو قدرها..

ليس المهم أن نحدد ميلاد هذه النخبة ولكن الأهم هو الدور الذى قامت به واستطاعت أن تحمل المجتمع كله نحو آفاق من المستقبل المستنير.

هذه النخبة هى التى نشرت فى حياة المصريين أضواء كثيرة بدأت بأضواء واحدة من أقدم دور الأوبرا فى العالم ومعها افتتاح مشروع اقتصادى وحضارى رهيب هو قناة السويس.. ثم جامعة القاهرة وما تركته من آثار على وجه الحياة فى مصر.. ثم كانت نهضة رائعة فى الفنون والآداب فتحت الأبواب لأجيال برزت فى كل ألوان الإبداع ثم كانت النهضة الاقتصادية على يد طلعت حرب.. ولا أحد يعلم من سبق الآخر من حيث التأثير والدور والرسالة.. هل سبقت جامعة القاهرة بنك مصر أم سبق المسرح القومى واستوديو مصر الاثنين معا.. هل سبقت زراعة القطن وصادراته مصانع الغزل والنسيج وما تركته من آثار على وجه مجتمع زراعى اقطاعى عتيق.. لا أحد يعرف هل سبق الأدب الفنون أم سبقت الفنون المال والاقتصاد.. هذه النخبة هى التى شيدت هذه العلاقات المتشابكة فى نهضة المجتمع وتقدمه نحو المستقبل وهى التى وضعت مصر الوطن والشعب والثقافة فى قلب أمته العربية تأثيرا وعمقا.
على جانب آخر، كان لهذه النخبة دورها السياسى فى ظل تجربة حزبية وليدة لم تصل يوما إلى درجة من درجات الاكتمال الحقيقى ولكنها بكل تأكيد كانت خطوات على الطريق.

عندما انتهت الحرب العالمية الثانية فى منتصف الأربعينيات وخرجت مصر منها سالمة لحد ما وكان المجتمع المصرى قد وصل إلى درجة من التحضر وضعته فى مصاف دول أوروبا وإن امتاز عنها بأن الحرب لم تدمر أى شىء فيه بينما دمرت الحرب أوروبا كلها.. كانت مصر فى نظر أوروبا المنهارة فى الحرب هى المأوى والملاذ.. ومن هنا شهدت هذه الفترة وصول أفواج كثيرة هاجرت من مدن الموت فى أوروبا إلى مجتمع آمن يستمتع بنخبة فكرية وثقافية وحضارية منحته مكانة خاصة أمام العالم فى ذلك الوقت بما فى ذلك الأوروبيين أنفسهم..

ولا أحد يدرى هل كان إنشاء إسرائيل فى هذه المنطقة من العالم وفى هذا التوقيت بالذات هو بداية مدروسة لإنهاء هذا الدور المصرى الصاعد وحصاره فى المهد قبل أن ينطلق إلى آفاق أوسع.. هل كان وجود إسرائيل على حدود مصر وما ترتب عليه من نتائج هو نقطة البداية لكل ما حدث بعد ذلك من تفاعلات وأحداث..

كانت ثورة يوليو أول ثمار هذا الكيان الغريب.. فلولا حرب فلسطين ولولا قصة الأسلحة الفاسدة ولولا هزيمة الجيوش العربية ما قامت ثورة يوليو بكل توابعها وآثارها الإيجابية والسلبية فى وقت واحد.

عندما قامت ثورة يوليو كانت مصر بالنسبة للآخرين أفضل حالا وأكثر استقرارا حتى وإن هزمت فى حرب 48 مع أشقائها العرب.. كان الاقتصاد المصرى يخطو نحو مستقبل أفضل بعد كل الانهيارات التى حدثت فى أوروبا بعد الحرب.. وكانت النخبة المصرية تمثل أكبر رصيد لهذا المجتمع نحو البناء والتقدم.. وكانت هذه النخبة هى القوة الحقيقية التى وضعت مصر فى مكانة بارزة بين شعوب المنطقة.. بل أزعم أنها تميزت عن كثير من النخب فى البلاد المتقدمة خاصة بعد أن سقطت هذه الدول أمام الحروب..

وللأسف الشديد أن ثوار يوليو لم يدركوا فى البداية قيمة هذه النخبة وكيف صنعتها مصر على عينها فكرا وسلوكـا وتحضرا واستنارة.. عصفت الثورة الشابة بكل رموز الأحزاب السياسية وألقت بهم فى السجون.. ثم عصفت بأصحاب الفكر والرؤى من الأجيال القديمة التى صاغت فكر هذه الأمة.. ثم اقتحمت بعض الثوابت التراثية التى كانت تمثل صورة من صور التماسك فى هذا المجتمع وهو تفتيت الأرض الزراعية.. ثم كان طرد الأجانب والاستيلاء على ثرواتهم وتأميم ثروات المصريين بالحق والباطل.. وأمام هذا ظهرت طوائف جديدة تحمل رؤى جدية ولكنها كانت أبعد ما تكون عن رؤى وفكر النخبة المصرية العريقة.

تحت الأشجار الفارهة كانت هناك حشائش كثيرة متعددة الأشكال والألوان ولكنها لم تستطع أن تكون بديلا حقيقيا لهذه النخبة.

اندفعت الطوائف الجديدة الصاعدة فى سباق محموم لتحقيق المصالح والرغبات وهنا بدأ اختلال منظومة اجتماعية ترسخت عبر عشرات السنين وكان من الصعب إنقاذها.. لم تكن هذه النخبة فقط عائلات عريقة.. أو مكتبة فى كل بيت أو سلوك حضارى رفيع.. أو عمارات نظيفة أو شوارع متحضرة.. أو لغة حوار راقية.. أو برلمان صاحب رسالة أو حكومة مسئولة أو ملك ليس فوق الحساب.. لم تكن فقط الفن الرفيع فى الأوبرا المحترقة أو السكة الحديد أو الفنادق العريقة أو القصور الملكية الشامخة أو الصحافة المتطورة أو الإبداع الجميل أو الانتماء الصادق.. لم تكن هذه الأشياء فقط ولكنها كانت تمثل بالفعل زادا حقيقيا لبناء واستمرار مجتمع أكثر تقدما.

لابد أن نعترف أن سهام ثورة يوليو قد أصابت بشدة وعنف هذه النخبة من البداية على المستوى الاقتصادى حينما أخذت أموالها.. وعلى المستوى الفكرى والثقافى حين تهمش دورها.. وعلى المستوى الإنسانى حين برزت طوائف اجتماعية زاحمت النخبة واستولت على أماكنها ومواقعها وهى غير مؤهلة لهذا الدور وقبل هذا كله كان ضرب الأحزاب السياسية وكانت بكل المقاييس أكثر وجوه هذه النخبة تميزا وتأثيرا.. أمام ضربات الشباب الثائر ترنحت النخبة المصرية العريقة وانزوت بعيدا أمام قوى الشعب العاملة وأهل الثقة وأهل الخبرة وأعداء الثورة والمنتفعين من ورائها..
جاءت بعد ذلك أزمنة أخرى أجهضت ما بقى من هذه النخبة وقد تجسد ذلك فى تراجع المؤسسات الثقافية والفكرية والحضارية من حيث الأثر والدور.. ثم حدث وعلى فترات متباعدة أن ظهرت طوائف اجتماعية كثيرة ومتنوعة حاولت كذبا أن تلعب دور هذه النخبة تحت غطاء مزيف ولكنها سرعان ما تكشفت وظهرت حقيقة تكوينها ومصالحها ما أكثر الطوائف التى حاولت أن تلعب هذا الدور ابتداء بأهل الثقة فى الماضى وانتهاء برجال الأعمال.

إن خسائر الشعوب والأوطان يمكن تعويضها أو استبدالها فى مجالات كثيرة حتى فى الحروب ولكن النخب لا تعوض لأنها رصيد بشرى وإنسانى نادر ومؤثر ويحتاج فى تكوينه إلى مناخ وزمن وبشر وهذه أشياء لا تتوافر دائما. إن النخبة لحظة مضيئة فى مسيرة الحياة ينبغى الإمساك بها والمحافظة عليها.

بعد السنوات الأولى فى الحكم أدرك الزعيم الراحل جمال عبدالناصر أهمية النخبة التى أطاحت بها الثورة ولكن الوقت كان قد فات أمام إجراءات تعسفية كثيرة لحقت برموزها فى الأحزاب السياسية ومواقع القرار المهمة.. وإن كان عبدالناصر قد استعان بمن بقى منها.

على العكس من ذلك حاول الرئيس أنور السادات أن يخلق طبقة بديلة للنخبة تجسدت فى رجال الأعمال الذين ظهروا مع الانفتاح ثم زادت سطوتهم مع الخصخصة.. ولكنهم كانوا مثل الحمل الكاذب وكان لنشأتهم علاقة بقوى كثيرة تركت الكثير من الظلال حول أدوارهم وبرامجهم.. وكان أخطر ما فعلته هذه النخبة الكاذبة أنها استولت على الاقتصاد المصرى فى نطاق عملية انتقال مريبة للثروة من يد الحكومة إلى عدد من الأشخاص وهذه هى الأزمة الحقيقية التى تواجه مصر الآن.

والسؤال الآن: ماذا بقى من النخبة المصرية العريقة.. كان من الصعب أن تتحمل النخبة كل هذه الضربات ابتداء بما حدث من ثوار يوليو وانتهاء بمتغيرات الانفتاح وشراذم الخصخصة والطبقة اللقيطة التى سادت المجتمع فى السنوات الأخيرة كان من الصعب أن تتحمل متغيرات الواقع الاجتماعى الذى لم يعد يؤمن بموهبة أو يقدر فكرا أو يحترم ثقافة.. كان من الصعب أن تظل هذه النخبة متمسكة بدورها ورسالتها ومسئولياتها والمجتمع كله يشهد متغيرات جذرية أطاحت بكل مقومات الإنسان المصرى فكرا وسلوكا.

وقفت فلول هذه النخبة وهى تشاهد بحزن شديد ما حدث للمنظومة التعليمية من التدهور والتراجع فى الجامعات والمدارس واختفت جامعات مصر العريقة وسط ضجيج صاخب من الثقافات الاستهلاكية الرخيصة وتحول التعليم إلى تجارة رابحة للسماسرة والمزايدين.

وقفت فلول هذه النخبة تبحث عن ثقافة مصر الجادة والمحترمة وفنها الرفيع وفكرها الراقى فلم تجد غير مسارح محترقة.. وسينما هزيلة.. وأفكار سوقية.. وغناء قبيح.. وفكر متخلف وأزياء من العصور الوسطى.

وقفت فلول هذه النخبة تشاهد أحزابا ورقية وزعامات هشة وواقعا سياسيا تجمد فى أحلامه وطموحاته ورؤاه.

وقفت فلول هذه النخبة لتشهد لغة غريبة فى الحوار الفج والأساليب الرخيصة لمجتمع فقد كل مقومات الجدية أمام ثقافة الغوغاء وهنا سقطت منظومة القيم التى ارتبطت دائما بهذه النخبة صياغة وفعلا.. لم يعد العدل ميزان المجتمع أمام مواكب البطش والنهب والاستغلال.. ولم يعد الحلال حلالا أمام استباحة المال العام وحق المواطن فى حياة كريمة فى وطنه.. ولم تعد الحرية سلاح الفكر وغاية الإبداع.. اختلت هذه القيم أمام ظواهر سلبية اجتاحت المجتمع كله وتجسدت فى غياب أشياء كثيرة.

لم يعد أطفال الشوارع وعددهم بالملايين ظاهرة اجتماعية خطيرة فقط ولكن الشارع كله افتقد النظافة وافتقد الحوار وافتقد الأمن أمام حالة انفلات فى كل شىء، هل يعقل أن تكون قضية الزبالة قضية مجتمع.. وأن تدور معركة طاحنة مع دولة عربية شقيقة بسبب مباراة فى كرة القدم.. وأن تصل لغة الشتائم والسباب إلى أحط درجاتها سوقية وفجاجة.

لم يعد الفقر فقط فى البحث عن طعام أو دواء أو مسكن ولكنه أصبح صورة من صور الظلم الاجتماعى المتوحش أمام طبقات جديدة افتقدت روح العدل والإحساس بالآخرين.. وأمام توحش المجتمع سقطت مشاعر الرحمة والولاء والانتماء وغاب شىء خطير اسمه الأمن والاستقرار. إن العشوائيات التى تحيط بالمدن الكبرى فى كل مكان ما هى إلا حقول ألغام زرعها الفقر وسوف تفجرها الحاجة.

أمام اختلال منظومة القيم تحولت الرموز العظيمة فى حياتنا إلى صور مشوهة بعد أن استباح الصغار حرمة الكبار فكان الاعتداء الوحشى على كل رمز يحاول أن يعيد لهذا الواقع المجنون شيئـا من العقل والحكمة.. واندفع قطيع من الذئاب يأكل ما بقى من قيم هذا الوطن ويستبيح ما تبقى من ذاكرته ورموزه.

لقد افتقدنا هذا النخبة فى مناسبات عديدة.. حينما انحدر الذوق العام فنا وأدبا.. وحين سادت لغة الغوغاء فى الشارع المصرى حوارا وفنونا وإبداعا.. وحين غابت القدوة بكل ما تعنيه وتتركه من قيم التواصل.. وحين سقطت منظومة الانتماء أمام الجشع والسيطرة وافتقاد الشفافية لدى قطاعات كثيرة.. وافتقدنا النخبة فى العمل السياسى حيث الفكر ووضوح الرؤى وتجارب السنين عندما وجدنا أنفسنا أمام أحزاب ورقية وزعامات ما انزل الله بها من سلطان.

من شاهد الإعلام المصرى فى أحداث الجزائر وما اتسم به من الغوغائية والحوار الساقط يشعر أن غياب النخبة الراقية كان أكبر الخسائر فى حياة المصريين.. ومن يشاهد سلوكيات طبقة رجال الأعمال فى نهب المال العام والعدوان الصارخ على ممتلكات الشعب وثوابته يدرك الفرق الشاسع بين مجتمع تحكمه نخبة واعية متحضرة ومجتمع آخر يحكمه جشع التجار والسماسرة.

وإذا حاولت أن تبحث عن أشياء بقيت من دور هذه النخبة فى الثقافة والفكر والسلوك والفن والإبداع والحياة المصرية بصورة عامة سوف تجد أشلاء مبعثرة هنا وهناك، ستجد بعض الأشخاص الذين حافظوا على ما بقى من قيم، وتجد بعض الأماكن التى تحمل عبق الزمان الجميل، وتجد العائلات التى أغلقت على نفسها أبوابها حتى لا تقتحم أرجاءها أشباح التخلف والجحود والضريبة العقارية، وتجد بعض المصداقية لدى قلة قليلة من البشر مازالت تؤمن أنها تنتمى لوطن جميل وعريق وكل ما فى الحكاية أن للزمن دورات وللأيام فصولا ومواسم، وأن مصر الثقافة والفكر والترفع والسلوك الراقى سوف تخرج من كبوتها يوما وتحلق فى سمائها من جديد، وأن النخبة فيها لم تمت، إنها فقط تعانى زمن انكسار وانحدار وتراجع ولكن الأنهار لا تجف مادامت السماء تمطر.

البرادعي في أول حوار شامل مع الشروق (1-3): لا يجب انتظار الانتخابات للتغيير



أجرى الحوار من فينا: جميل مطر -




التقينا أول مرة فى نيويورك، كان محمد البرادعى فى ذلك الحين منتدبا من الديوان العام لوزارة الخارجية للعمل فى الوفد الدائم فى نيويورك. وقع اللقاء فى منزل أحد الأصدقاء المشتركين، وفى حضور عدد من أعضاء الوفد الدائم، أذكر منهم نبيل العربى القاضى السابق فى محكمة العدل الدولية وعمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية، وسيد قاسم المصرى. الوكيل المساعد السابق فى منظمة المؤتمر الإسلامى وآخرين.

كانت حرب يونيو 1967 مازالت تلقى بظلالها على حياة الدبلوماسيين المصريين فى الخارج، وسمعت فى تلك الليلة حكايات عن الأيام الصعبة التى قضاها أعضاء الوفد المصرى فى نيويورك، كانت الحكومة المصرية قد رفعت توقعات الدبلوماسيين فى الخارج واثقة من أن النصر مؤكد. ووجهت وفدنا الدائم فى نيويورك إلى رفض أى مشروع قرار تتقدم به الدول الأعضاء فى مجلس الأمن يهدف إلى وقف إطلاق النار. كانت الحماسة فائقة إلى درجة دفعت بالسفير محمد عوض القونى، وكان معروفا بأنه من أكفأ العاملين فى الدبلوماسية المصرية ومشهودا له بالاتزان، هدد الدول العظمى فى ذروة الأزمة بأنها إذا أصرت على انعقاد مجلس الأمن فإنه سيمتنع عن حضور الجلسة وسيبعث محله بأصغر واحد دبلوماسى فى وفد مصر ليجلس فى مقعد مصر. وكان محمد البرادعى الشاب حديث العهد بدبلوماسية الأمم المتحدة، ولكن معروف بعناده وصلابته، هو الذى اختاره السفير القونى لهذا الغرض.


دار حديثنا ونحن فى الطريق لتناول العشاء حول ما خلفته حرب 1967 من آثار على مصر وشعبها. وكان واضحا أن أمورا عديدة لم تستردها مصر بعد أن فقدتها فى هذه الحرب أو بعدها، وإن كانت استردت كرامة السلاح وسمعة العسكرية المصرية، واستردت الأراضى، إلا أنها لم تسترد ما فقدته فى منظومة القيم وفى ثقتنا فى أنفسنا وفى بعضنا البعض. ومازال الإنسان فى مصر يفتقر إلى الاستمتاع بحقه فى حياة حرة وكريمة.

وجدته مستعدا لحديث مطول مع «الشروق» يتحدث فيه عن تجربة الأسابيع الأخيرة منذ بدرت أول إشارة إلى نيته فى ترشيح نفسه لمنصب رئاسة الجمهورية فى الانتخابات الرئاسية المقبلة وليتحدث فيه أيضا عن تفاعله مع ردود الأفعال وانعكاساتها على تطور أفكاره وخططه. وافترقنا على وعد بلقاء فى منزله فى الخامسة من مساء اليوم التالى.

اللقاء

يتحدث بصوت هادئ وجدية لا تخلو من بساطة. لا يتردد فى مخاطبة من يدير معه الحوار باسمه الأول، دون تكلف، وهو يواصل حديثه بحماسة، محركا يديه فى لحظات الانفعال بما يقول. فى بيته الذى انتقل إليه قريبا فى الطابق الرابع من بناية فى شارع رئيسى من قلب العاصمة النمساوية، كان اللقاء، بعد أكثر من أسبوعين على نهاية عمله رئيسا للوكالة الدولية للطاقة النووية. استمر الحوار ما يقرب من 5 ساعات ونصف الساعة، اعتذر خلالها عن جميع مكالمات التليفون. رغم كثرة الأسئلة لم ينقطع الحديث إلا مرة واحدة لتناول الشاى والقهوة.

منذ أن أعلن محمد البرادعى عن نيته للترشيح فى الانتخابات المقبلة لمنصب رئيس الجمهورية، «لو توافرت شروط مناسبة تضمن سلامة العملية الانتخابية ونزاهتها»، ظهرت ردود أفعال متعددة. من ناحية، انطلقت حملة سياسية وإعلامية ضد، تتهمه بـ«الاستعلاء» وتصفه بأنه «الرئيس المشروط»، وأن حديثه عن تعديل الدستور سيقود إلى «انقلاب دستورى». فى الوقت نفسه، رحبت شخصيات أكاديمية وسياسية وإعلامية بموقفه، الذى «يحرك الكثير من المياه الراكدة فى المشهد السياسى المصرى».

سافرت إليه «الشروق» فى فيينا، وفتحت معه هذا الحوار لتتعرف على رؤيته للأوضاع الراهنة فى مصر، ونواياه وتوقعاته للمستقبل..

متى بدأت التفكير فى الترشح للانتخابات الرئاسية؟
موضوع الترشيح للرئاسة جاء بالنسبة لى كمفاجأة لم تكن فى حسبانى. بالطبع أتابع كأى مصرى ما يمر فى الوطن، لكننى أعلنت نيتى فى عدم الانخراط بالعمل العام مرة أخرى، خاصة أن الاثنى عشر عاما الأخيرة من عملى كانت فترة صعبة، وكنا نريد أنا وزوجتى أن نقضى أخيرا بعض من الوقت فى حياتنا بهدوء، ونقوم بالأشياء الذى حرمنا لفترة طويلة أن نقوم بها.

لكنك تلقيت «المفاجأة» بهدوء، وأعلنت أن ترشحك رهن بإجراء تعديلات قانونية ودستورية، وصفها البعض بأنها مستحيلة..
ما أطالب به يتجاوز مصطلح «تعديلات». إذا كنا نريد أن نبدأ بداية جديدة وجدية فى مصر، يجب أن نتوقف عن الحديث عن «تعديلات» لإزالة عوائق قانونية ودستورية فقط، لأن مثل هذه التعديلات قد تساعدنا فى انتخاب رئيس فى ظروف نزيهة فى عام 2011، إلا أنها تبقى مجرد عملية «ترقيع». المهم هو ما يأتى بعد ذلك، فالأمر لا يتعلق بشخص واحد فقط، وإنما بمصير وطن».

الديمقراطية تستغرق وقتا طويلا. هى ليست مثل صنع فنجان القهوة، فهى تحتاج إلى وقت. ولكن هذا لا يعنى ألا نستفيد من تجارب الآخرين، مثل ذلك الذى حدث فى شرق أوروبا فى أعقاب الاتحاد السوفييتى، من نظام شيوعى استمر 60 عاما إلى نظام ديمقراطى يتمتع بانتخاب حر وصحافة حرة. فى الوقت نفسه لا يجب أن نتخذ من الوقت ذريعة، فقد نحتاج إلى سنة أو سنتين لإنجاز ما نريد، ولكن من العبث أن نقول إننا نحتاج إلى 50 عاما، والحجج الذى تقال حجج واهية.

ما حجج تأجيل الديمقراطية التى ترى أنها «واهية»؟
على سبيل المثال، نقول إن مصر فقيرة، وهذا ليس سببا كافيا، فأنا كنت منذ فترة قصيرة فى الهند، لأتسلم جائزة أنديرا غاندى للسلام. والهند رغم ما فيها من أمية وفقر أكثر من مصر، استطاعت مرتين على الأقل أن تسقط الحكومة، لأنها لم تستجب لمطالب الفقراء، والفقراء الذين لم تصلهم نتائج هذا الانفتاح الاقتصادى هم الذين أسقطوا الحكومة وليس الطبقة الوسطى.

إذا كنا جادين نحو الديمقراطية، فيجب أن يكون هناك عدة خطوات. الخطوة الأولى والسريعة هى ضمان شفافية ونزاهة الانتخابات، وإشراف قضائى كامل. الإشراف الدولى ضمانة أخرى مهمة، والاعتقاد أن هذا تدخل فى شئون الدولة، تفكير عقيم، فهذا لا ينتقص من سيادة الدولة فى شىء بل هذا يزيد منها، لأنه يؤكد شفافيتها ويوصل رسالة إلى المجتمع الدولى بأننا جزء من هذا المجتمع، الذى ينضوى تحت منظومة عالمية لا يمكن أن نخرج منها.

هل ضمان شفافية الانتخابات كخطوة أولى وسريعة يكفى لتقرر المشاركة؟
قبل أن يفكر الإنسان فى الانتخابات، أرفض الدخول فى نظام لا يعطينى الحق فى أن أترشح كمستقل. ليس هناك نظام برلمانى فى العالم يسلب الشخص الحق فى أن يدخل الانتخابات كمستقل. راجعت الدستور الفرنسى، يقول لكى يترشح أحد المستقلين يجب أن يحصل من المجالس المحلية على 500 صوت، من 45 ألف صوت، أى أقل من 1%. الدستور المكسيكي لا يضع أي شروط. راجعت الدستور الأمريكى، والشيلى، والسنغالى، وغيرها. أجريت مسحا للأنظمة الدستورية شرقا وغربا، شمالا وجنوبا. لم أصادف ما يوجد عندنا فى مصر، حيث يضع الدستور شرطين متناقضين، معناهما أنه لا يمكن لأى مستقل أن يترشح، فى ظروف مصر الحالية.

اليوم، نحن نتحدث عن حزب له أغلبية فى البرلمان، والشروط الموضوعة تجعل من المستحيل لمرشح مستقل أن يحصل على هذه التوقيعات. الدستور من الناحية النظرية لا يحرم المستقل أن يدخل الانتخابات وإنما من الناحية العملية يجعلها مستحيلة، والدستور لا يجب أن يكون إطارا شكليا، وإنما يجب أن يكون إطارا قابلا للتطبيق.

هل هناك تفاصيل أخرى لفتت نظرك فى الدستور الحالى، وتنادى بإعادة النظر فيها؟
كل الدساتير، التى تصنف كديمقراطية، لا يوجد منها ما يسمح بأكثر من فترتين للرئاسة، ودستور مصر لا يحدد فترات الرئاسة. الدستور المصرى به 15 خطأ مطبعيا، إذا كنا لا نستطيع أن نطبع أو ندقق القوانين، فهذا أكبر دليل على ما وصل إليه حالنا. إذا كان هذا حال دستورنا فما الذى وصلت إليه الخدمات الأخرى، من علاج شخص فقير فى الريف، إلى تعليم طفل فى قرية، وهذا هو ما يعكس القيم الذى ننظر إليها؟

وفى الدستور الذى يسعى لترسيخ الديمقراطية، لا تطغى سلطة على الأخرى، لكن فى دستور مصر أجد أن هناك سلطة واحدة طاغية بشكل لم أشاهده فى أى دولة أخرى، وهى السلطة التنفيذية الممثلة فى رئيس الجمهورية، على السلطة التشريعية. الدستور هو الذى يجب أن يرعى الحدود بين السلطات لضمان تأمين دورها فى الوطن.

ما الفرق بين «يقرر أو يضع»، من الذى يعمل ومن الذى يقرر، مجلس الشعب أم الرئيس؟
هناك 33 مشروع قانون مكمل للدستور، وهذه بدعة لم أرها من قبل. الدستور يجب أن يكون له مضمون واكتفاء ذاتى يكفل حرية الشعب، ولكن مواده متناقضة، مثلا هناك مادة لمكافحة الإرهاب، ومن ثم نجد الدستور يسمح بدخول منزلك والتنصت على مكالماتك. من الذى يملك قانونيا تعريف جريمة الإرهاب؟ القاضى المدنى وليس الرئيس. ولكن حين تنظر فى الدستور فهو على العكس، يتحدث بصورة نظرية عن كل الحقوق ويسلب معظمها بعد ذلك. هناك فرق بين القانونية والمشروعية. والكثير من مواد الدستور تفتقر إلى المشروعية، لأنها لا تتفق مع القيم الموجودة فى العالم، ولأنها فى كثير من أوقاته لا تطبق لأنها مسنودة بقوانين.

قانون الطوارئ يحكم مصر منذ 30 سنة، والدستور عبارة عن قصاصات ورق، لأن المعيار فى الحقيقة هو: هل الدستور يحمينى أصلا؟ هل يكفل لى الحرية أم لا؟ سنة 1975، أنور السادات طلب من إسماعيل فهمى أن يعد دستورا جديدا، واشتغلت أنا وزميل لى فى إعداد دستور جديد أرسلناه عام 75 إلى السادات. لم نؤلف بل كان هناك موسوعة دساتير العالم صادرة من مجلس الأمة أو مجلس الشعب، أخذنا منها أحسن الموجود، طبعا لم أسمع عن هذا الدستور منذ ذلك اليوم، ويا ريت أجد نسخة منه الآن. لقد استغرقنا فيه لأكثر من شهر، وضمنا فيه ما يكفل التوازن الدقيق بين السلطات، وما يحقق حرية الأفراد.

وما الدوافع التى جعلت السادات يطلب دستورا جديدا؟
ربما كانت الدوافع تبدو وقتها ضرورية بعد حرب 1973، وكل ما أعلمه أن السادات كان يريد دستورا جديدا، وطلب من إسماعيل فهمى ذلك بشكل سرى. نحن نحتاج إلى دستور، وصياغة دستور جديد تعنى إيجاد إنسان جديد، يعرّف المواطن حقوقه ويكفل له التوازن بين حياة عادلة، حقه فى الحرية، والتنمية الاقتصادية. الدستور ليس ورقة وإنما عقد اجتماعى بين جميع طبقات الشعب، نحن نريد أن نسير على هذا الطريق، وهذه هى الأهداف الذى نريد أن نحققها.

الشعب أيضا لازم يطالب بهذا، المسألة ليست فقط أن نصوغ مادة، أو نجرى تصويتا، بل يجب أن يكون لدينا نظرة شاملة. نحن وطن، يجب أن تكون نظرتنا على الأقل إلى ثلاثة أو أربعة أو حتى خمسة عقود مقبلة. الهدف قصير الأمد هو تعديل الدستور لانتخاب الرئيس، إنما هذا لن يؤدى إلى حل مشكلاتنا، لأنه من الممكن أن يأتى لنا هذا الدستور بـ«المستبد العادل»، إنما نحن نريد نظاما جديدا يقوم على الديمقراطية ويكفل حياة كريمة للمواطن المصرى.

فى تعديلاته الأخيرة خصص الدستور حصة للمرأة، ورأى البعض فى الفكرة استكمالا لتخصيص مقاعد للعمال والفلاحين، بما يعنى صياغة «عقد اجتماعى بين جميع طبقات الشعب» كما تقول؟ لماذا يضع الدستور حصة أو «كوتة» للفلاحين والعمال؟
كان لهذا مبرره بعد 1952. الآن يضع كوتة أخرى للنساء، فماذا عن الأقباط؟ المجلس به كم قبطيا؟ بالانتخاب يوجد نائب قبطى واحد، بينما الأقباط لا يقلون عن 8% من إجمالى الشعب، إذن هناك مشكلة.
للسيدات الآن 64 مقعدا، وللفلاحين 50 مقعدا، وللأقباط مقعد واحد، كل هذه مسائل ديماجوجية، ليست مبينة على تفكير عقلانى، ولذلك كل هذه الاعتبارات يجب وضعها فى بوتقة فى إطار لجنة تأسيسية تمثل جميع الشعب من الإسلام السياسى إلى الماركسيين، ونتفق كيف تتوافر مقومات المساواة والعدالة الاجتماعية فى دستورنا. لن تكون العملية سهلة لأن هناك طوائف مختلفة، ولكن لابد من العمل على ذلك.

الدستور الجديد لابد أن يحقق السلام الاجتماعى لكل طائفة: مسلم، قبطى، بهائى، طفل، إمرأة. لابد أن يثق الجميع بأن حقوقه مكفولة وأن الدولة تتعامل معه على قدم المساواة مع زملاء المواطنة. الدستور الحالى هو الخامس منذ الثورة، بعد دساتير 53 و56 58، ثم 64 و71. خمسة دساتير فى خمسين سنة فقط. إذا وجدنا الدستور متخلفا عن متطلباتنا فلابد أن نسارع بوضع دستور جديد يضمن للمواطن مصالحه وحقوقه فى الوقت الحالى، ويضمن استقلال الدولة، ويكفل أن تتطور بأسلوب منضبط. الفرق بين الثورة والنظام التشريعى هو التقدم وفقا لتغيير منضبط بالدستور والقوانين.

نحن نحتاج إلى نوع من المصالحة والمصارحة الوطنية. يجوز أن تسير بالتوازى مع الدستور، لكى يعبر الدستور بالفعل عن حقيقتنا وليس عن القناع الذى نضعه.



وأين ترى نقطة البداية لاستعادة الدستور هيبته ودوره؟

إذا كنا نريد أن نبدأ بداية حقيقية يجب أن نضع دستورا جديدا، لأنه حتى إذا جاء أعظم إنسان فى ظل هذا الدستور، سيواجه مشكلات حقيقية سياسية واجتماعية واقتصادية. ولن يكون هناك ديمقراطية أو حرية بدون دستور جديد لأن الحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية كلهم مرتبطون ببعض.

نحن اليوم فى وضع عدم استقرار، ولا يجب أن ننتظر سنتين. والمشكلة هى أنه لا يوجد فكر متكامل لمعنى الدستور، والتوازن الذى يضمنه بين السلطات بحيث لا تطغى واحدة على الأخرى. لذلك أنا أدعو الرئيس مبارك إلى إنشاء لجنة تأسيسية لصياغة دستور جديد، على أن تكون هذه اللجنة بالانتخاب المباشر، وتضم خبراء القانون الدستورى. ويجب أن تكون لجنة معبرة فى نهاية المطاف عن جميع انتماءات الشعب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لأن وظيفة هذه اللجنة ستكون إعداد دستور يمهد لبناء سلام اجتماعى قوى فى مصر.

نحن لا نصنع العجلة، يجوز أن تضم عددا من فقهاء القانون بالتعيين، على أن يقوموا هم باختيار الأفضل من بينهم. وهذا السلام الاجتماعى يجب أن يكون قائما على نوع من المصالحة الوطنية. نحن لدينا مشكلات؛ مثلا التوتر بين المسلمين والأقباط، ولا يكفى أن نقول إننا نسيج اجتماعى، فنحن نضحك على أنفسنا، لابد أن نعترف أن هناك أقليات، والأقليات دائما يكون لديها حماية خاصة من الجهاز القضائى، ولا يمكن أن ندفن رأسنا فى الرمل. فإذا واصلنا القول إننا «قماشة وطنية واحدة وليس لدينا مشكلات، ونقوم على قيم مصرية أصيلة»، فليحدد لى أحد ما القيم المصرية الأصيلة اليوم؟.

الشروط المضحكة

شروط تكوين الأحزاب فى مصر مضحكة. لو رغب مواطن فى تشكيل حزب جديد، يجب أن يعرض الأمر على لجنة يرأسها الحزب الحاكم، إذن سأدخل تحت مظلة الحزب الحاكم. وهناك مثلا شرط أن يكون الحزب الجديد مختلفا عن أى حزب موجود، وبصراحة أصبحت الفروق بين الأحزاب معدومة، ومن ثم شرط أن يكون الحزب مختلفا لا يتحقق بسهولة. فكرة أن الحزب الحاكم يوافق على فكرة تشكيل حزب جديد يجعل من العملية كلها مسرحية، لأن الحزب يعنى الحق فى التجمع، وعليه فقط أن يخطر الحزب الحاكم بتأسيسه، وليس من حق الحزب الحاكم أن يقرر من يتكلم، وكيف يتكلم، كيف يتظاهر وبأى أسلوب.

إذا كان الدستور بصورته الحالية يطلب منى أن أمثل أمام الحزب الحاكم إذا أردت أن أؤسس حزبا، لأذكر أسباب رغبتى فى إنشاء الحزب الجديد، ثم يصدر الحزب الحاكم قراره بالموافقة أو الرفض، فهذا شرف لا يمكن أن أعطيه له نهائيا، لأنه لا يتفق مع أبسط مبادئ الديمقراطية. هذه الأوضاع، لا يستطيع أى إنسان يحترم نفسه أن يدخل فى إطارها، لأنها تجعل كل العملية عملية اصطناعية، وبالتالى فإن مطالبى ليست شروطا أو استعلاء، ولكن لن أدخل الانتخابات إلا إذا كانت لدىّ فرصة لأن أفوز، وإلا سأكون جزءا من ديكور.

ولماذا طالبت فى بيانك بأن يكون الرئيس المقبل «رئيسا توافقيا يلتف حوله الجميع»؟
طلبى أن يكون مرشح الرئاسة توافقيا لا يعنى أن أكون أنا مرشحا توافقيا، بل يجب أن يكون المرشح لرئاسة مصر فى هذه الفترة، «توافقيا»، لأن مصر تشرذمت، أصبحنا قبائل لا يجمعنا الكثير، وإنما لابد أن يكون هنا قيم مشتركة، تحدد لماذا يكون هناك «دولة اسمها مصر». هذه قيم مشتركة لا أظن أنها موجودة فى مصر لكنها ليست فى الحقيقية موجودة.

وما أهم مظاهر ما تصفه بالتشرذم فى «دولة اسمها مصر»؟
فى 1952 قامت ثورة صاحبتها فى نفس الوقت سياسة قمعية فى الداخل، بدء من محاكمات الإخوان إلى مطاردات الشيوعيين. ثم انتقلنا من رأسمالية الدولة إلى ما يطلق عليه نظام اقتصادى حر مفتوح. الدولة كانت تقوم على ما تعرفه، وليس على أساس من الحقيقية، ونتيجة هذا نجح البعض فى استغلال ثغرات موجودة لتحقيق المليارات. هناك تدهور كبير منذ الثورة، بعض الأشياء نفذت والكثير لم ينفذ، الطبقة الوسطى اندثرت، وهى حزام المجتمع. ونشأت طبقات ما يطلق عليها طبقة الأغنياء الجدد، وعمر قيم المجتمع ما يتم تحديدها من جانب الطبقة الغنية. نتيجة لكل هذا أصبحت القيمة الأساسية التى تحكم مصر الآن السلطة أو المال وليس العلم. السؤال أصبح: ما سلطتى وما المال الذى أملكه وليس علمى أو قدرتى.

منذ 1952 أصبحنا مجتمعا مشرذما، نعيش كقبائل لا يجمعها شىء. حصلت تطورات خلال الـ50 عامة الماضية خلقت وغيبت القيم المصرية، وزرعت فينا الروح القبلية.عندما انتقل إلى الشمال من العاصمة، أرى كيف يعيش الناس، الذين يملكون الفيللات والحياة السهلة والبذخ المذرى والقيم التى لا تمت إلى مصر بصلة. وعندما ألتفت إلى جهة أخرى اصطدم بأقصى درجات الفقر. نحن نسير فى الشارع ولا نرى الفقراء، فقد أصبحنا لا نرى مشكلات المجتمع الأساسية.

تتحدث عن مجتمع فقد خلال العقود الستة الماضية قيمه وسلم نفسه لروح القبلية والتشرذم، فكيف ترى الطريق لعلاج ذلك؟
الخطوة الأولى هى المصارحة بأخطائنا الذى ارتكبناها منذ سنة 1952. لقد قمنا بأشياء جيدة، ولكننا أخطأنا فى أشياء كثيرة، يجب أن نصارح نفسنا بأخطائنا، ومنها الأخطاء الاقتصادية. هناك مشروعات كبيرة تم إنفاق الملايين عليها، ولا نعرف مصيرها، مثل شرق التفريعة، من المسئول؟

ليس لدينا نظام للمحاسبة، وهذا لا يعنى أنى أطلب الآن محاسبة أى من هؤلاء الناس. فى هذه المرحلة نحن لا نستطيع أن نحول نظرنا من المستقبل إلى محاسبة هؤلاء، فنحن مشكلاتنا اليوم أكبر بكثير من أن نتطرق منها إلى محاكمات وعقوبات، الماضى له ما له، على الأقل فى المرحلة الحالية، هذه هى مصر بمشكلاتها الثقيلة، والسؤال الأهم هو كيف نسير إلى الأمام؟

الأحد، 13 ديسمبر 2009

البرادعي.. والاقتراب من المنطقة المحرمة


البرادعي .. والاقتراب من المنطقة المحرمة ..


12th December

يتهمون البرادعي بأنه لا يعرف هموم مصر.. بينما هم الذين لا يعيشون بيننا عندما يتحدثون عن الإنجازات التي تحققت في 28 عاماً
التصدي للدفاع عن الباطل لابد أن يمتلئ بالباطل والأكاذيب والتطاول.. تماما كما أن الدفاع عما هو حق يلتزم بلغة رصينة مهذبة تستند للأدلة الموثقة التي يصدقها ويحترمها العقل.
ولا يختلف كثيرا الهذيان الذي حدث وبدعم رسمي لمهازل معارك كرة قدم مع الجزائر مع هذيان الهجوم علي بيان المصري المحترم د. محمد البرادعي استجابة لدعوات مصرية للترشح للرئاسة - ذلك البيان الذي لم يطالب فيه إلا ما تطالب به جموع القوي الوطنية المصرية والتي يخرج عليها فقط بعض المعارضة التي تعمل سراً وعلانية لتجميل وتكميل الحزب الحاكم أملا في بعض المقاعد تمارس بها ضجيجاً لا يثمر طحينا في المجالس النيابية.

ينعي بعض الهجوم الذي يدعي الحديث الجاد مع د. البرادعي أنه في بيانه يكشف عن قصور إدراك للإنجازات والنجاحات التي تحققت في مصر خلال السبعة والعشرين عاماً الماضية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً - وهو حديث يبدو فيه من يتكلمون هنا كأنهم هم الذين يعيشون بعيدا عن الواقع المصري الحقيقي - وليس د.البرادعي الذي كشف بيانه عن إدراك عميق لما وصلت إليه الحالة المصرية من ترد وتراجع وتخلف - هل يريدون أن ننعش ذاكرتهم ببعض الأرقام الموجعة عن الإنجازات العظيمة للحزب الحاكم؟

وفق تصريح في نوفمبر 2009 لوزير التنمية الإدارية أن النيابة الإدارية تحقق سنويا في 80 ألف قضية تتعلق بإهدار المال العام. انتهي التصريح ولم تنته قوائم النسب والأرقام 44% من المصريين تحت خط الفقر، 300 مليار دولار هُربت سالمة آمنة من مصر، إجمالي الديون 614 مليار جنيه - تضاعف الأورام 8 مرات -، أعلي نسبة في العالم في الفشل الكلوي والكبدي- 20 مليون مصري مصابون بالاكتئاب - يعلم الله وحده الرقم الحقيقي - معدل البطالة بين حاملي المؤهلات العليا ارتفع إلي 79% - تقرير مؤشر وحدة الاستخبارات الاقتصادية والسياسية بالبنك الدولي أعلن أن مصر هي ثالث دولة استبدادية في العالم من بين 50 دولة - احتلت مصر المرتبة 117 بين 131 دولة في توزيع الناتج القومي علي المواطنين.. هل يستطيع السادة المهللون والمدافعون بالإنجازات وبعدم تعطيل مسيرة التقدم والازدهار أن يحدثونا عن حالة التعليم في مصر - أتحدث عن التعليم الذي يخص جموع المواطنين وليس المدارس الخاصة وأبناء السادة والجامعات والمدارس الألفية والدولارية من أملاك حلف السلطة والمال - وهل يستطيعون أن يحدثونا عن هوان العلاج ومزابله التي يطلقون عليها مستشفيات، بينما تريليون جنيه من البترول والسياحة والقناة والتحويلات ذهبت في عمليات المضاربة علي الأراضي والاستهلاك السفيه «عد إلي الدراسة الخطيرة التي أعدها الخبير الاقتصادي عبد الخالق فاروق - الكرامة 9/11/2009 »-، أما كوارث تلوث التربة ومياه الشرب والغذاء والهواء وشرب مياه الصرف الصحي والري بمياه المجاري - واستيراد أكثر من نصف ما يحتاجه الشعب من غذاء والصفقات الفاسدة والمسرطنة والتي تزرع في بلادها ليأكلها الحيوان.. لا أظن شعباً يتعرض لصنوف الإبادة والحروب البيولوجية كما يتعرض المصريون، لا أدري معني ما يكتب من أن التغيير أعمق مما يبدو علي السطح، ورغم أنني أشرت إلي نماذج متواضعة قياساً إلي مجمل تردي الحالة المصرية التي يخشون أن تعطل مسيرتها أصوات قادمة من الفضاء الافتراضي وسلالم النقابات التي اضطر المعارضون أن يقفوا عليها لشدة ازدهار واحترام الحريات والعمل النقابي، تلك الأصوات التي اتُهم بيان د. البرادعي بالاستناد إليها- واتهام هذه الأصوات بأنها لا تقدم مقياسا واحداً بأنها تمثل حقا الشعب المصري ولم يقل المهاجمون سواء المهذبون أو المتطاولون ما المقياس الذي يستند إليه الحزب الحاكم في تمثيل الشعب المصري - هل هو التزوير المثبت بأحكام القضاء وباعترافات كبير مسئولي الحزب ورئيس الوزراء في الولايات المتحدة - وإلي جانب التزوير هناك عصا الأمن وإرهاب قانون الطوارئ.

«3/12» الحالي نشرت الصحف المستقلة مقتطفات من تقرير 16 منظمة مصرية من منظمات حقوق الإنسان قامت برفعه إلي الأمم المتحدة تتهم الحكومة فيه بتحويل مصر إلي دولة بوليسية تضطهد وتطارد فيها الحريات، ووثق التقرير أدلة انهيار حقوق المواطنين بسبب القمع والتعذيب والقوانين الاستثنائية - كيف في ظل هذه الأوضاع المخزية يمكن إجراء انتخابات محررة من التزوير وإرهاب الناخبين، وأين هذه اللجنة المستقلة والمحايدة التي أعلنوا أنها تتولي تنظيم جميع إجراءات العملية الانتخابية لضمان نزاهتها - وإذا كان هذا الكلام يحمل أي ظل من الحقيقة فكيف زوروا كل ما أجري من انتخابات؟!، وإذا كان لا يوجد قاض لكل صندوق في الدول الديمقراطية والمتقدمة فلأنه لا يوجد في كل صندوق لص ومزور وعصا أمن وقانون طوارئ!! وجزء من باطل الهجوم يبدو في اعتبار الرقابة الدولية تدخلاً في الشئون والسيادة الداخلية، ولا أعرف هل وجود رقابة دولية علي الانتخابات الأمريكية كان تدخلاً في السيادة والشئون الداخلية الأمريكية؟ .. وهل الدعم والمعونات والنفوذ والتحالفات مع الإدارة الأمريكية تمثل احتراما للسيادة المصرية!! ويكتمل باطل الهجوم بالطعن علي أداء د. البرادعي لمهمته في الوكالة الدولية للطاقة ليبدو تقارباً مدهشاً ومخجلاً بين الهجوم المصري والهجوم الإسرائيلي عليه، وأن يكون منع تدمير المشروع النووي الإيراني محوراً أساسياً -ورغم ما يعرفه بعض من هاجموا الظروف الدولية بالغة الصعوبة والتعقيدات والفوضي والاجتياح للمؤسسات الدولية وكل ما أدار فيها د. البرادعي مهمته باحتراف سياسي واضح جمع له هذا القدر من كراهية وهجوم العدو الصهيوني والذي مازال الضمير المصري الذي لم تنحرف بوصلته الوطنية يعتبر عداء الصهاينة أحد أهم أسس الفرز الوطني - للأسف أن يتقارب الهجوم علي د.البرادعي من أولياء النظام في مصر والإرهابيين في إسرائيل - وهو في الحالتين هجوم يؤكد الخوف - خوف نظام هش لا يستطيع أن يحتكم إلي انتخابات حرة وإلي شعبية حقيقية داخل مصر - وخوف صهيوني كشف أكثر من مرة أن بقاء الفساد والاستبداد وانعدام الديمقراطية في مصر من أهم دعائم قوته ونجاح خططه للمنطقة!!

ويتحول غثاء الهجوم إلي تطاول عندما يتهمون من يستجيب لنداءات أبناء وطنه للمشاركة في تجربة ديمقراطية حقيقية تنهي فضائح التزوير وتنهي أنظمة ترويع المواطنين وتستعيد العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وتعيد الوطن حقا وملكا لجميع أبنائه بأنه مطية سهلة لقوة خارجية ولمجموعات مصالح تتربص بالتجربة المصرية في الإصلاح والحرية بهدف تبديد المكاسب والإصلاحات التي تحدث في مصر الآن.. وليت المهاجمين المهذبين يتركون الفزع مما فعله بيان د.البرادعي جانبا ويفيدوننا برأيهم فيما أشرنا من قليل من كثير من أرقام ووقائع ما أصبحت عليه أحوال مصر والمصريين .. ثم هل حصل د. البرادعي علي قلادة النيل العظمي تقديرا لعمالته للخارج، أم أن رجلنا الذي كرمه الرئيس مبارك هذا التكريم الذي لا يمنح إلا للملوك والرؤساء ومن قدموا للإنسانية خدمات جليلة.

ليطالب بإنقلاب علي الدستور وتهدم للمؤسسات المصرية القائمة - كما وصفوا ما جاء في البيان -ولا أعرف ما اسم ما ارتكب بحق الدستور 2005 و2007، وما اعتبره خبراء وأساتذة الفقه الدستوري أخطاء وخطايا وإهانة للشعب المصري ليس لها مثيل في دساتير الدول المتقدمة والمتخلفة!!

ويبقي سؤال للذين لا يدافعون عن نظام، ولكن عما تحقق لهم من مكاسب لم تكن تخطر لهم ولا في أحلامهم.. لماذا يخشي نظام له شعبية وجماهيرية كما يدعي وحقق إنجازات عظيمة ينعم بها المصريون أن يخوض انتخابات ترفع عنها وسائل التزوير والتنفس الصناعي التي استمدوا منها شرعيتهم المخطوفة.. لماذا يخشي التنافس وفق شروط النزاهة الكاملة مع قامات محترمة ممن تمتلئ بهم مصر؟! الأقوياء بشعوبهم لا يخافون ولا يطلقون الحملات المكذوبة والمسعورة علي من يختلفون معهم ولكن يحتكمون ويستقوون بشعبيتهم إذا كانت موجودة، ولأنها غير موجودة فانتظروا معارك وإسفافاً وبلطجة وتطاولاً ستتواضع أمامه جميع مشاهد الانهيار والسقوط والإسفاف التي حدثت من أجل مباراة كرة قدم.

عيب.. مصائر الشعوب وحرياتها وحقوقها الأصيلة في اختيار من يمثلونها تمثيلا أمينا لا تدار ولا تعالج بالتطاول أو الإرهاب.. وعليكم أن تطمئنوا أنه كلما ازداد الهجوم علي المصري المحترم د. البرادعي ازداد المصريون الغارقون في مستنقعات الحاجة والفقر والمرض والبطالة واعتراك لقمة العيش.. وكل ما صنعته لهم هذه المصائب من عزلة عن الحياة السياسية - ازدادوا اقترابا ومعرفة بالرجل وبكل ما يمثله من قيم محترمة وبمعني ما يطالب به وما سبق وطالب به ومنذ سنوات أغلب القوي الوطنية، وأنها كلها تترجم أحلامهم وآمالهم في الخلاص والتخفيف من العذابات والكوارث التي يعيشونها «تسألني بائعة الصحف وهي ترص طاولة صحفها وينكسر ظهرها بسبب رفع رصات الصحف الحكومية التي يذهب أكثرها كما جاء - مين الراجل اللي عايزين ياكلوا لحمه ده.. يبقي راجل كويس مادام سنوا أسنانهم عليه!!». إنهم يحاولون الآن اختصار هذه المعركة المصيرية في بيان وانقلاب د. البرادعي والتي يظنون أنها تنتهي بخطط الوأد والإهانة والتهوين والتخوين.. إنها معركة جميع القوي الوطنية التي تدرك حجم الخطر القادم ما لم يحدث تغيير سلمي دستوري يعيد بعث قوي مصر الكامنة وإيقاف تجريف وتدمير ثرواتها البشرية والطبيعية من خلال انتخابات محررة من التزوير، تعيد رسم خريطة المجالس النيابية وتفتح الطريق أمام المستقلين لخوض انتخابات الرئاسة وخلق نظام سياسي ديمقراطي جديد.. وأكرر السؤال: لماذا يخاف الأقوياء بشعبيتهم وإنجازاتهم التي حققوها خلال ما يقارب ثلاثين عاماً أن يخضعوا لإرادة واختبار واختيار الشعب ودون أن يتحصنوا ويختبئوا في جحر الخطيئة الدستورية التي أطلقوا عليها المادة «76»؟!

الاثنين، 7 ديسمبر 2009

هل مصر فعلاً صاحبة فضل علي البلاد العربية ؟





...............................................................
أولا: هذا السؤال قد يبدو ساذجا ومستفزا، هل مصر فعلا صاحبة فضل علي البلاد العربية أو بالأحري علي الشعوب العربية ؟
حيث يبدو أن هناك إجماعا عاما واسعا ومسلما به بين المصريين علي هذا الأمر باعتباره حقيقة لا تقبل النقاش وأن الشيء الوحيد المسموح به (وعلي استحياء هذه الأيام) هو لوم وتقريع خفيف لزوم العشم بألا نعاير العرب بذلك، أي أن حقيقة أننا أصحاب فضل مفروغ منها والجدل (الخافت والمستحي) هو حول شرعية المعايرة وليس علي ثبوت وإثبات تلك الحقيقة، الأمر الذي يستوجب فعلا مصارحة بيننا تستلزم أن نفتح عقولنا ونسأل أنفسنا عن أشياء باتت موضع البدهيات بينما هي في الأصل موضع شبهات أو بأكبر قدر ممكن من المجاملة مشتبهات!

مبدئيا فإن شعبا يلوك في فمه كلاما من نوع: «ده إحنا فضلنا علي الكل، أو هؤلاء نسيوا فضل مصر، ده إحنا اللي عملناكم وإحنا اللي حررناكم»، وهذا اللغو المسكين يعبر عن استجداء المصريين للآخرين أكثر منه معايرة، وكأننا نقول لهم والنبي قولوا إننا كويسين، وحياتكم كلموني عن جمالي وروعتي، شيء ما في إلحاح المصريين علي طلب اعتراف الآخرين بفضل مصر يشبه تلك المرأة العجوز المسنة التي تريد ممن حولها أن يتذكروا كم كانت جميلة؟ وكم يطربها أن يتحدث الآخرون عن جمالها، بينما صورتها في المرآة حاليا كاشفة لتجاعيد تملأها قهرت جمالها السابق وتحيله الآن قبحا!

المصريون الآن أشبه بأحفاد رجل أصيل الأصل وغني المال وعظيم الأخلاق وواسع الثروة مات فبدد أبناؤه وأحفاده قصوره ومصانعه ومزارعه وثروته وقعدوا كحيانين علي الرصيف لا يملكون ما يقولونه وما يفعلونه سوي الحديث عن مجد جدهم دون أن ينتبهوا أنه مات وأنهم ضيعوا ثروته ومرمغوا سمعته وحلاً! NASSER

لاحظ أنني حتي هذه الفقرة أساير وأسير مع الذين يقولون إن لمصر فضلا وأناقش الطريقة لا الحقيقة، الطريقة التي تعبر عن ناس لا يعرفون الفضل والفضائل لكن يثرثرون عنه طول الوقت فصاحب الفضل إن كان فضلا وإن كان صاحبه يفقد قيمته وقيمه حين يتباهي به ويتنابز حوله ويرتكب حين يردد هذا اللغو، فعلا غير أخلاقي، فمن هو الإنسان المحترم الذي يفعل فعلا نبيلا شريفا ثم يعاير الناس به ثم أيضا يطلب مقابل هذا الفعل بل يريد أن يكون الناس أسري أو عبيدا لفضله وكأنه خسيس فعل شيئا قيما في حياته نادرا واستثنائيا وما صدق أنه فعله فأخذ يعاير الناس به ويطلب مقايضة أمامه حتي كره الناس فضله وكان يوم أسود بستين نيلة يوم ما قبلت تسلفني يا أخي! !

بينما نقول عن الشخص الذي ينسي الفضل إنه ندل، فإننا نصف الشخص الذي يطلب مقابل فضله وكأنه ماسك ذلة بذات الصفة..... الندالة!!

المذهل هنا أن أجيال المصريين الحالية ومنذ أربعين عاما تحديدا هي أكثر أجيال تخلت وولت وخلعت وفرت واستندلت مع العرب ومع ذلك فهم - وليس أجدادهم وآباءهم - الذين يطالبون الآخرين بسداد قيمة الفضل (إن وجد)، وهم هنا يسيئون ويهينون ذكري أجدادهم كما يعرون مادية وانتهازية تفكيره!

لكن دعنا من هذا كله رغم أهميته، وتعال لنسأل السؤال الجاد الناشف الجاف: هل نحن فعلا أصحاب فضل علي العرب؟

أولا مكرر: هل نحن فعلا أصحاب فضل علي العرب ؟

في علم السياسة وعلاقاتها كلمة فضل كلمة غريبة ومهجورة ليس لها أي محل ولا مجال ولا مكان لها في العلاقات بين الشعوب وبين الدول، والحديث عن الفضل خساسة مضحكة ومثيرة للشفقة فلم نسمع يوما من الأمريكان أنهم أصحاب فضل علي أوروبا وبالتحديد علي ألمانيا مثلا حيث خرجت برلين مهزومة ومنسحقة ومفلسة من الحرب العالمية الثانية فتولت أمريكا في مشروعها الشهير مشروع مارشال إعادة بناء الاقتصاد الألماني عبر حجم هائل من المنح والقروض ساهم المشروع مع علم وعمل ووعي وعقل الألمان في نهضة هذا الشعب وتجديد هذه الدولة لتصبح واحدة من الدول الثماني العظمي في الكرة الأرضية، فهل تطاول أمريكي وقال يوما لمستشار (رئيس) ألمانيا أو للصحف الألمانية: تذكروا فضل أمريكا عليكم يا عرر يا جرابيع يا نازيين!!!

لن أطيل عليكم في سرد تجارب دولية كبري في مساندة الشعوب الصديقة والجارة والتي تربطها مصالح مشتركة عميقة ومهمة وأهداف واحدة وثقافة تكاد تكون موحدة، لكن المحصلة أنه لا أحد في العالم يقول هذا الكلام الفارغ بتاع الفضل وكلام الناس العاجزة الخايبة!

ثم في مجال الأخلاق السياسية والسياسة الأخلاقية كلام مثل هذا معيب وجارح للطرفين، فالذي يقول إنه صاحب فضل كأنما هو تاجر البندقية شيلوك اليهودي الذي يريد أن يقتطع لحم الناس المدينين له كي يوفوا بسداد ديونهم كما أنه أمر يثير عدوانية الطرف الذي نال الفضل (لاحظ مازلت ماشي معاك في أننا أصحاب فضل وهذا غير صحيح بالمرة وتماما) فأنت عندما تعاير شخصا وتضغط عليه فأنت في الحقيقة تبتزه ابتزازا رخيصا كي يكون تابعا أو خادما أو مكسورا أمامك وهو ما ينقلب إلي عكس ما تطلبه وضد ما ترجوه فللصبر حدود وللطاقة احتمال محدد!
لكننا فعلا لسنا أصحاب فضل علي العرب!
أعرف أنك لن تستطيع معي صبرا لكنك لو صبرت لاستطعت!

ثانيا : إذا كان لأحد فضل علي العرب فهي ليست مصر بل جمال عبدالناصر!

نعم الجملة شديدة الوضوح، إذا كان لأحد فضل علي العرب فهي ليست مصر بل جمال عبدالناصر، ما نتحدث عنه باعتباره عطاء مصريا عظيما وبلاحدود للعرب وللدول العربية أمر يخص مصر جمال عبدالناصر ولا دخل بمليم فيه لمصر أنور السادات وطبعا مصر حسني مبارك، وإلا قل لي وحياة أبيك ماذا قدمت مصر للعرب منذ تولي مبارك حكم مصر؟

ما فضل مصر علي العرب ؟

ما فضل مصر علي ليبيا مثلا ؟ حتي يتذكر الشعب الليبي فضل مصر فتنهال دموعهم وتنسال أنهارا من فيض الفضل المصري؟
ربما تكون العلاقات التجارية التي مارستها مصر مبارك مع ليبيا خلال الحصار الدولي عليها موضع تذكير وفخر من حفنة تعرف بذلك في دوائر السياسة الحاكمة، لكن الحقيقة هذه العلاقات أفادت مصر أكثر من ليبيا ثم إن ليبيا كانت تقيم ذات العلاقات سرية وتحتية مع شركات ودول أخري في تبادل فوائد مشتركة فهو أمر لا يخص مصر مبارك بميزة ولا يقدم لمصر فضلا!

طيب ما فضل مصر علي الشعب السوداني ؟
ممكن تحكي لي شوية عما فعلناه للسودان مثلا، ولا أي حاجة، حكومة وشعبا، بل نسينا السودان ونتغافل عن مشاكله ولا نتعامل مع همومه ولا حتي نستفيد من خيراته وفرص استثماراته ؟

حد فيكم فاكر أي فضل لمصر علي السودان منذ استقلال السودان، بلاش منذ استقلاله، بل منذ 28عاما هي حكم مبارك، ألا تتذكرون معي أننا كنا مقاطعينه أصلا بعد انقلاب البشير ومنذ محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا وكانت هناك فجوة كبيرة وجفوة أكبر، وقبلها كانت خناقات للدجي مع حسن الترابي (وكذا المهدي وحزب الأمة أيضا) وكنا ننتصر لجعفر النميري ديكتاتور السودان حتي تخلصت منه ثورة سودانية شعبية، هل فعلا عملنا أي شيء كي يدين لنا سوداني واحد بإيقاف مذبحة دارفور، أو منع انفصال الجنوب (ربما ساهمنا بتكريس انفصاله!!) هل رحبنا باللاجئين السودانيين كما يجب علينا مع اللاجئين ومع السودانيين ؟ هل نشطنا تجارة واستثمارا مع السودان كما فعلت الصين وتكاد تكون المستثمر رقم واحد في السودان؟ هل انتهينا إلي حل محترم يصون حقوق البلدين في خلافنا حول شلاتين وحلايب (ألم تسمع أن حكومة الخرطوم تعاملت مع حلايب باعتبارها دائرة انتخابية سودانية!)

حد يقول لي أي حاجة في فضلنا علي العراق ؟

وماذا فعلنا للجزائر ومع الجزائريين منذ أربعين عاما!!

وما فضل حضرة أي واحد فينا علي تونس مثلا وقد كنا نخاصم الحبيب بورقيبة منذ أيام عبدالناصر ثم لا نتذكر عن علاقاتنا مع تونس سوي مباريات كرة القدم ذات الخيبة! وأن الفرق التونسية كانت تمثل حتي حين عقدة للفرق المصرية!!

أما المغرب فمش عايز أسمع ولا كلمة عنا معها فقد انتهي وجودنا فيها بعد رحيل عبدالحليم حافظ وحفلاته وأغنياته لشبيهه الحسن الثاني!

بينما موريتانيا أنا أتحدي أي مصري يقول لي اسم رئيسها الحالي ؟ أو عدد سكانها ؟ أو اسم جورنال واحد فيها ؟، بل أظن أن معظم المصريين لا يعرفون أن موريتانيا تتحدث اللغة العربية!!

ندخل بقي علي المشرق العربي!

كلموني شوية عن فضلنا علي لبنان... الحقيقة لبنان ذات فضل متبادل يخص نانسي عجرم وهيفاء وهبي وإليسا وأفلامنا السينمائية التي صورناها في بيروت بعد النكسة وكان القلع والخلع فيها فوق الركب، ثم تفرجت مصر علي الحرب الأهلية في لبنان خمسة عشر عاما ولا حيلة لنا إلا جملة ارفعوا أيديكم عن لبنان بينما لم تكن لنا فيها يد، وحتي الآن فإن حكومتنا تتعامل مع نصف لبنان باعتباره خصما لها (حزب الله وحركة أمل وتيار ميشيل عون وقلبنا مؤخرا علي وليد جنبلاط فلبنان بالنسبة لحكمنا الرشيد هي سعد الحريري وسمير جعجع!!).

أما فضلنا علي سوريا فبلا حدود طبعا فيكفي أن مالناش دعوة بيها منذ 1973 تقريبا ورغم محاولات فنانين مصريين أنصاف موهوبين وأنصاف مثقفين طرد ممثليها من حياتنا المصرية إذا بنجوم سوريا يسطعون في مصر!

وهذه فرصة لطيفة جدا للكلام الفارغ الآخر الخاص بموضوع أن مصر تفتح ذراعيها للفنانين العرب وكأن هذه منة أو منحة، لكن الحقيقة أن مصر بلا فنانين عرب لا تملك أن تقول عن نفسها ولا كلمة من عينة هوليوود الشرق والذي منه، ثم هوليوود الأصل يا بتوع الأصول هي التي تفتح ذراعيها لكل فنان ولأي فنان من أي مكان في العالم وهذا شرط التميز وأس النجاح!
ثم إذا كان فتح مصر ذراعيها للفنانين العرب فضلا فأرجو أن يكون واضحا لدي كل أعضاء نقابة المهن التمثيلية الذين يبدو أنهم في حاجة ماسة إلي دورات تثقيفية في التاريخ فالذي أدخل المسرح إلي مصر يا بهوات يا بتوع الفن هم السوريون والشوام، هم الذين علمونا يعني إيه مسرح وهم الذين بنوا المسرح المصري وخلقوه علي شكله المعاصر من عدم، ثم الشوام والفنانون العرب يا نجوم مقصورة استاد المريخ في الخرطوم هم الذين أسسوا فن السينما في مصر وأنتجوا وأخرجوا ومثلوا أفلامنا الأولي الرائدة واقرأوا تاريخكم الفني لتعرفوا وتفهموا فضل العرب والشوام علي كل فنان مصري!

وبالمرة بقي طالما جئت إلي الذي يوجع فإن الصحافة المصرية هي صحافة صنعها شوام العرب من سوريين ولبنانيين وهم رواد فن الصحافة المصرية الأوائل بل هم مؤسسوها وأصحابها من أول الأهرام والمصور والهلال والمقطم ودار المعارف حتي روزاليوسف إلخ إلخ!

ثم ما فضل مصرعلي الخليج العربي ؟ (لم يأت دور فلسطين حتي الآن فصبرا جميلا والله المستعان).
آه هنا ستسمع كلاما حقيقيًا عن دور المدرسين المصريين والأطباء والمهندسين وغيرهم الذين ساهموا في تعمير وإعمار وتعليم وتطبيب أهل الخليج!
هذا صحيح لكنه ليس فضلا
هذا عمل ولا أقول واجبا
بذمتك ودينك هل سافر مئات الآلاف من المدرسين والأطباء للخليج حبا في أهل هذه البلاد أو رغبة في خدمة الإنسانية أو كرما أو عشقا لسواد عيون المواطن العربي في الخليج (أو في ليبيا والجزائر حيث سافر المصريون ليعملوا هناك).

يا أخي عيب، لايزال السفر لهذه الدول حلما لدي كل شاب مصري كي يكون نفسه ويعمل قرشين ويتزوج أو يبني بيتا، ومحدش يقولي إحنا اللي علمناهم!

فالحقيقة أنهم يتعلمون الآن في أوروبا وأمريكا ولم نسمع عن أن أوروبا وأمريكا تعايرهم، ثم إذا كنا علمناهم فأنا وعلي مسئوليتي الشخصية أزعم أن نصف بيوت أقاليم مصر إن لم يكن أكثر من نصفها كثيرا تم بناؤه بفلوس مصريين يعملون في الخليج ، يعني بنوا بيوتنا وصرفوا علي أهالينا مقابل ما تعلموه أو اتعالجوا بيه، كان عملا ولم يكن فضلا ولا حتي رسالة! وكان حلم أي مدرس فيكي يا مصر أن يأتي اسمه في كشوف الإعارة للدول العربية، هل بسبب إنه سيذهب لرسالة العلم ونشر الثقافة ورفع راية التنوير، أبدا ولكن بسبب أنه سيقدر علي بناء البيت أو تزويج البنات وتجهيزهن أو توفير مبلغ للزمن أو غير ذلك من مقتضيات ضرورات الحياة!

طبعًا لم أذكر اليمن حتي الآن متسائلا عن فضلنا عليها خصوصا إنه كل شوية يفكرك واحد من إياهم إننا حاربنا لأجل اليمن بينما نحن حاربنا كذلك لأجل الكويت، وهذا ما يقودنا مرة أخري إلي فضل جمال عبدالناصر.

فالمؤكد أن العمل العربي الوحيد المشترك الذي فعلته مصر لأجل شعب عربي منذ 28عاما كان مشاركة قواتها في حرب الكويت عام 1991، لكن دعني أذكرك أن هذه المشاركة كانت تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية !! ثم كان إسقاط ديون مصر الخارجية تاليا لهذه المشاركة (لا أقول ثمنا وقد تقول، ولا أقول مقابلاً وقد تقول، وإذا قلت أنت ذلك لن أجادلك).

لعلنا في السياق نفسه نتذكر أن مصر أمدت العراق بسلاح في حرب صدام مع إيران وبموافقة ورعاية أمريكية ثم بمقابل مالي ضخم وليس حبا في العروبة (ربما كرها في إيران)، وساعدنا زعيما عربيا مجنونا ومستبدا هو صدام حسين علي تبديد ثروة شعبه وقتل الملايين من أبناء وطنه في حرب بلا طائل وبلا هدف إلا خدمة الأمريكان والصهاينة!

الحقيقة أنه من 28سبتمبر 1970 ليلة وفاة جمال عبدالناصر فإن الشعب المصري ليس له أن يفتح عينه أمام أي شعب عربي ليقول له إنني منحتك أو أعطيتك أو تفضلت عليك خلال أربعين عاما.


ثالثا: ومع ذلك فإن مصر جمال عبدالناصر لم تكن هي أيضا صاحبة فضل علي العرب!

جمال عبدالناصر كان زعيما مؤمنا بالعروبة وحالما بالوحدة بين الدول (الشعوب) العربية، هذا صحيح، لكنه ساند ودعم حركات التحرر العربية ضد الاحتلال والثوار العرب ضد الحكومات التابعة للغرب إدراكا منه حقيقيا وعميقا وبعيد النظر للمصلحة المصرية التي هي مع المصلحة العربية في موضع التوأم الملتصق .

مصر كي تتقدم وتتطور وتكبر وتصبح قوة إقليمية قادرة علي بناء ذاتها ومد نفوذها وتلبية احتياجات شعبها لابد أن تملك محيطا حليفا لها ومؤمنا بمبادئها ينسق معها ويخطط معها وينفذ معها، علي سبيل المثال كي يقوم جمال عبدالناصر بتأمين احتياجاتنا المصيرية من مياه النيل والحفاظ علي اتفاقية وقعها مع دول حوض النيل وهي تحت الانتداب أو الاحتلال فلابد أن تكون هذه الشعوب التي تملك مفاتيح ماء النيل صديقة لمصر وحليفة لها، من هنا يمد لها يد العون ويزود ثوارها بالسلاح والمال كي يتحرروا ويتمكنوا من قيادة بلادهم.
وهذا ما كان في كل الدول الأفريقية التي صار بطلها جمال عبدالناصر حيث مصر موجودة بالقوة المادية وبدعم السلاح والمعلومات وبالأزهر الشريف وشيوخ الدين وبالمدارس والجامعات وبالتأييد لهذه الشعوب في المحافل الدولية سواء الأمم المتحدة أو حركة عدم الانحياز أو غيرهما، لتصبح مصر ساعتها الحليفة والصديقة بل الأخت الكبيرة التي ضحت وساعدت ودعمت وتحصل بالمقابل وبدون أي تردد وبكل حب ونبل علي ما تريده من هذه الشعوب والحكومات.
ويكفي يا سادة للمفارقة فقط أن جميع الدول الأفريقية صوتت لصالح مرشحنا المصري فاروق حسني علي منصب مدير عام اليونسكو بينما مبارك لم يشارك في مؤتمر الوحدة الأفريقية منذ 15عاما تقريبا! ! كما أن أجهزة إعلام مصر كانت تشير طوال الوقت إلي خوفها من أن تتم رشوة الدول الأفريقية للتصويت ضد مصر! ! وهكذا جهل واضح وغياب مطلق وخلعان كامل يجعلنا بلا قيمة وبلا دور في أفريقيا الآن رغم احتفاظنا بآثار قديمة في قلوب الأفارقة، آثار عهد وقيمة جمال عبدالناصر.
انظر الحصيلة : جمال عبدالناصر الذي قطع رجل إسرائيل من أفريقيا بمواقفه وبطولة مصر مع حركات التحرر في أفريقيا صنع أمانا رائعا لمصر من أي اختراق إسرائيلي لمياه النيل أو للدول الأفريقية، ثم إذا بإسرائيل خلال أربعين عاما من حكم السادات ومبارك ترتع في أفريقيا بل ووصلت حتي سدود علي نيلك! !

بنفس المنهج كان عبدالناصر يساند الجزائر وثورتها وشعبها لأن مصر عبد الناصر كانت تنتصر للشرف وللحرية ولكرامة الشعوب في مواجه العدوان والاحتلال، ولأن مصر عبدالناصر كانت في حاجة لأن يكون العرب في حاجتها ومحيطها، ولأن وجود فرنسا محتلة للمغرب العربي معناه أن استقلال مصر وأي دولة عربية منقوص ومهدد، وأنه لا يمكن لاستعمار مجاور لك ومحيط بك أن يسمح لك بالتقدم الاقتصادي أو الاستقلال السياسي أو الصعود التنموي.
مصر عبدالناصر كانت تساند وتدعم لأجل نفسها قبل الآخرين ومن أجل مستقبل أبنائها ومواطنيها قبل أي أحد آخر، كذلك فعل عبدالناصر في اليمن (بدون ما تسقط عنه ديون مصر الخارجية بل زادت).
وكذلك كان السودان في قلب اهتمامات جمال عبدالناصر بل في قمة وعيه وخططه، ويكفي أن شعب الخرطوم وأبناءه حملوا سيارة جمال عبدالناصر من فوق الأرض حبا يفوق الوصف واعترافا يفوق الحب بمكانة مصر حين زار الخرطوم في مؤتمر قمة عربي بعد نكسة يونيو المريرة والرهيبة!!
الأمر إذن لم يكن مجرد مبادئ عبدالناصر المؤمنة بالحرية والوحدة بل كذلك كانت خطة عبد الناصر لتحويل مصر قوة إقليمية ودولية مهمة، وقد كانت كذلك فعلا حتي أن عشرات الخطط وضعها جهازا المخابرات الأمريكية والبريطانية لاغتيال عبدالناصر (ظني أن إحدي هذه الخطط أفلحت وقتلوا الرجل في 28 سبتمبر 1970فعلا)، ثم كانت نكسة يونيو لتكسير عظام عبدالناصر وإنهاء مشروع مصر الرائدة لبداية مشروع مصر التابعة !!

هنا نتوقف عند فضل مصر علي فلسطين لأكاد أقسم لك بالله أن مصر لا فضل لها علي فلسطين، بل إن مصر ضيعت فلسطين ولو كنت فلسطينيا لركعت لله وسجدت أدعوه أن تحل مصر عن فلسطين كي تتحل!!

مصر حاربت إسرائيل في 1948 فانتهت الحرب بضياع نصف فلسطين وبالنكبة الكبري حيث قامت دولة إسرائيل بينما كانت مصر الدولة الأكبر والجيش الأكبر وانهزم أمام عصابات صهيونية، ومن ثم فالمؤكد أن مصر هي المسئولة الأولي عن نكبة 48 وهي بالمناسبة شاركت في هذه الحرب لأن أهداف إسرائيل التوسعية والاستعمارية لا تغيب عن أي حمار فما بالك بالعاقل النابه الذي يعرف أن إسرائيل تبحث عن دولتها الكبري من النيل للفرات، ومن ثم فالسكوت عنها وهي تحتل فلسطين كأنه رضوخ وموافقة لأن تحتل بعدها من نيلنا المصري السوداني إلي فراتنا العربي!

أما حرب 67فإن إسرائيل هي التي بدأت وشنت الحرب وقد أضعنا فيها نصف فلسطين حيث كانت القدس تحت ولاية الأردن، وغزة تحت ولاية مصر؛ فانهزمنا وضيعنا القدس وغزة وسيناء والجولان بالمرة.

أما حرب أكتوبر فقد كانت حربا من أجل سيناء وليست من أجل فلسطين وليس في خطتها التي وضعها عبدالناصر أو التي وضعها السادات كلمة واحدة عن فلسطين، فهي حرب مصرية تحاول استعادة أرض مصرية وشاركتنا في الحرب دول عربية كثيرة سواء بسلاح البترول (حد يكلمنا عن فضل البترول) أو بالمدرعات والدبابات كما فعلت الجزائر وكان منوطا بقواتها الدفاع عن القاهرة ضد محاولات احتلالها بعد الثغرة واحتلال السويس، أو بالأبطال الغر الميامين كما فعل الفدائيون الفلسطينيون.

ومن يومها فض اشتباك أول وفض اشتباك ثان ولا فلسطين ولا غيره حتي إننا تحولنا في عصر مبارك إلي دولة تقف علي الحياد كما يقول هو نفسه بين إسرائيل والفلسطينيين (لا يقول فلسطين بل الفلسطينيين!)، وصارت مصر الدولة الوسيطة والسمسارة السياسية للصفقات بين طرفي النزاع والصراع وتتباهي بأنها موضع ثقة الطرفين، ثم لاتكف مصر عن لعب دور السنترال في أي أزمة تحيط بالشعب الفلسطيني، حيث تتصل طوال الوقت بوزراء ورؤساء دول أجنبية ترجو منهم وقف إطلاق النار المفرط وتدين بالمرة اللجوء إلي العنف!!.
ثم نغلق معبر رفح حتي في لحظات العدوان الإسرائيلي علي غزة، ويملك كثير من المصريين الجسارة أن يقولوا إن هذا عدل وحق، ثم نسمع عن مخاوف من أن يأتي الفلسطينيون إلي سيناء يا خويا ويقعدوا فيها وهيه ناقصة، بينما يقاتل ويناضل اللاجئون الفلسطينيون كي يعودوا إلي أرضهم يخشي عوام منا وغوغاء من بيننا أن يأتينا فلسطينيون من غزة إلي سيناء وكأن نخوة المصريين جفت وكأن ما نسمعه ونراه من تدين المصريين مقصور علي النقاب واللحية والسبحة وتكفير الأقباط وحرق البهائيين، أما الانتصار للحق ونصرة المظلوم وإغاثة اللاجئ والاعتصام بحبل الله فكلام لا يعرفه المصريون ولا عايزين يعرفوه!!

رابعا: هل مصر فوق الجميع فعلا ؟

آه جينا للي يزعل أكتر
هل مصر فوق الجميع؟
السؤال الواجب هنا هو أي جميع؟ من هم الجميع الذين مصر تقف أو تجلس فوقهم؟
هل جميع المصريين؟ أم جميع البشر؟ أم جميع الدول؟
الغريب أن دولتين فقط من بين كل دول العالم رفعتا هذا الشعار، الأولي هي ألمانيا النازية، وشعارها ألمانيا فوق الجميع، ألمانيا أدولف هتلر العنصرية العدوانية وكان هذا بشكل رسمي ولفترة مؤقتة (سوداء علي العالم كله)، والثانية التي هي مصر بشكل غير رسمي وفي عهد مبارك حيث تتجرأ بعض قيادات الحزب الوطني وببغاوات الإعلام ودببة الفضائيات ويكررون شعار مصر فوق الجميع دون وعي بنازيته وعنصريته وربما دون وعي بمعناه ومغزاه أصلا؟

هذا الشعار عنصري رفعته دولة في فترة عنصرية آمنت فيه فئة مهووسة في مرحلة متطرفة وفي أجواء ديكتاتورية بأن الألمان جنس مختلف ومتميز عن العالم كله، وأن الجنس الألماني نبيل متفوق علي غيره من الأجناس والتي هي أجناس أدني أو قذرة تستحق إفناءها أو قتلها والتخلص منها، أي المقصود والمفهوم من ألمانيا فوق الجميع أنها أعلي وأهم من الشعوب الأخري وأكثر رقيا وتفوقا بحكم الجينات والهرمونات، وأن الألمان يستحقون وفق هذا الإيمان أن يحكموا ويتحكموا في العالم وأن تكون الأجناس الأخري مجرد عبيد وأرقاء وأقنانا عند الجنس الألماني اللي فوق بينما الجميع تحت!!

من إذن أدخل هذا الشعار المجنون إلي بلدنا وجعل حمقي أحيانا ومخلصين جهلة أحيانا أخري وسياسيين متحمسين حينا يرددون هذا الهوس الخرف دون فهم ودون تفكير؟
ثم ماذا يعني هذا الشعار الأخرق؟
هل يعني أن مصر فوق بقية الدول ؟ النبي تتلهي!!

فمصر التي تحتل المركز الأخير بين دول العالم في سوق كفاءة العمل، والتي تقبع في المركز 111 بين دول العالم من حيث النزاهة والشفافية، والتي لا تزرع قمحها وتستورد رغيف عيشها، والتي لا تشكل أي صناعة فيها أي أهمية في العالم، والتي لا تمثل أي تجارة لديها أي أهمية في العالم والتي لا تظهر في قائمة الدول العشرين الأكثر تصديرا في العالم ولا قائمة المائة، والتي لا تضم جامعة واحدة ضمن أهم خمسمائة جامعة في العالم والتي والذي والذين، هل يمكن أن يصدق أي مهفوف أنها فوق الجميع!

غالبا يتم استخدام هذا الشعار في مواجهة الدول العربية، وهو ما يعود بنا إلي أصل الموضوع وهو هذا الإحساس الزائف عند الشعب المصري بأنه جنس مخصوص غير العرب كلهم وأنه متفوق عليهم وأنه أعظم منهم وأنهم ولا حاجة أمام المصريين، وإذا لم يكن هذا الكلام عنصريا فهو ألعن، فسيصبح كلام ناس عيانة يستحسن ذهابها فورا لطبيب نفسي فهذا مرض شهير معروف بالبارانويا وهو جنون العظمة مقرونة بجنون الاضطهاد، وهذا عين حالتنا السياسية (والشعبية) الراهنة؛ حيث نشعر أننا أعظم ناس علي وجه الأرض، ثم إن العالم كله يتآمر علينا ويتحالف ضدنا ولا نسأل أنفسنا ليه؟

ليه بيتأمروا علينا، هل نشكل أي تهديد لأي دولة في العالم؟
هل ننافس أي دولة أو شعب في التفوق العلمي والاختراعات الهائلة أو الصعود للفضاء أو امتلاك الرءوس النووية؟
هل نهدد الصين في قدرتها علي التصدير ونشكل خطرا علي أمريكا في امتلاكها الفيتو؟ هل يرتجف منا نتنياهو وقادة تل أبيب أم يصفوننا بالأصدقاء والحلفاء؟

لماذا تحقد علينا الشعوب العربية ؟

هل تحقد علينا لأننا نتمتع بأقوي صحة بدنية في المنطقة فلا عندنا فيروس سي ولا فشل كلوي وكبدي ولا ينتشر فينا السرطان وأمراض السكر والضغط، أو لأننا نشكل أكبر عدد مرضي بالاكتئاب في الوطن العربي مما يستدعي حقد الشعوب العربية علينا لأننا مفرطو الحساسية؟
هل يحقدون علينا لأننا اكتفينا ذاتيا في الزراعة والصناعة مثلا؟
هل يحقدون علينا لأننا صرنا ننافس كوريا الجنوبية في التصنيع وهونج كونج في التجارة والهند في الكمبيوتر وتركيا في الديمقراطية؟
هل يحقدون علينا لأن رئيسنا عندما يزور دولة عربية يخرج ملايين لتحيته والهتاف باسمه ورفع سيارته فوق الأكتاف؟
كلها أسئلة أليس كذلك؛ فهل تملك أنت إجابات عنها؟
أم أنك ستكتفي بأن مصر فوق الجميع!

أما إذا كان مقصودا بأن مصر فوق الجميع أي أن لها الأولوية الأولي في أي حسابات أو أي قرارات تصدر عن حكومتنا فهذا كلام بدهي ينطبق علي مصر كما ينطبق علي أي دولة في الوجود الإنساني، فلا توجد دولة تتخذ موقفا أو قرارا في غير مصلحتها ووفق أولوياتها وإلا تبقي دولة يحكمها مجانين أو عملاء!

أما إذا كان مقصودا أن مصر أهم من مواطنيها فالحقيقة أن لا دولة محترمة تتعامل بأنها أهم من مواطنيها فالوطن هو مواطنوه، وقيمة وكرامة وكبرياء الوطن من كرامة وكبرياء مواطنيه، وأن حق كل مواطن أن يكون رقم «واحد» في أي قرارات خاصة بالدولة ومن الدولة ومع ذلك فإن مصر بلد الكوسة والمحسوبية وحيث يحصل أقل من عشرين في المائة من مواطنيها علي أكثر من ثمانين في المائة من الناتج القومي لها، بلد أنت مش عارف أنا مين وتوريث الحكم والمناصب للأبناء والأصهار وتكويش خمسين عائلة علي ثروة وحكم البلد، دولة هذا حالها لا يمكن أن تخدع نفسها إلي حد أن تتصور أنها فوق الجميع، فالجميع من السيد الرئيس حتي أصغر مسئول في الحزب أو الحكم فوق مصر!

خامسا: طبعا من السهل جدا اتهام هذه السطور وكاتبها

سهل حيث يلجأ البعض حين سماع كلام لا يحبه إلي كراهية من يقوله لا مناقشة ما قاله، ومن ثم طبيعي جدا أن تخرج اتهامات لكاتب هذه السطور بأنه:
-لايحب مصر.
-أنه متشائم ونظارته سوداء.
-أنه مأجور وعميل.
-أنه يعارض الرئيس لهذا يريد أن يحط من شأن البلد في عهد السيد الرئيس.

أما عن الاتهام الأول فلا أنت ولا اللي خلفوا حضرتك يملك أن يتهمني أنني لا أحب بلدي ولا أنا مطالب أن أثبت لجنابك أنني أحبها.
أما ردا علي الاتهام الثاني فأعترف أن نظري ناقص سبعة العين الشمال، وناقص خمسة العين اليمين، وعندي استجماتيزم وحصلت علي إعفاء من الخدمة العسكرية، بسبب ضعف نظري، ومع ذلك فإن نظارتي بيضاء ولا أحب ارتداء نظارات شمس ملونة أو سوداء طبعا «وإن كنت أحب نادية لطفي وهي ترتديها في فيلم النظارة»، السوداء ثم إنني لست متشائما ولست متفائلا ولا أجد أي ضرورة للتشاؤم والتفاؤل في السياسة بقدر ضرورة الإرادة والعزيمة.
أما الاتهام الثالث فالمأجور والعميل أسهل تهمة يلقيها العملاء والمأجورون علي الناس.
أما الاتهام الرابع فأنا أعارض مبارك طبعا وقطعا، فأقول كلاما ويرد علينا غيرنا بكلام (ويردون بشتائم أحيانا كثيرة وبقضايا ومحاكم وأحكام بالسجن أحيانا أخري)، وشوف أنت الكلام الذي تصدقه فصدقه دون تفتيش في نوايا أي من المعارض والمؤيد، ثم أعارض مبارك لكنني لا أعارض مصر، ومصر ليست مبارك رغم أن ما فعله فيها مبارك ربما جعلها غير مصر التي نعرفها، وأخشي أن يورثها لدرجة أن تصبح مصر تلك التي لا تريد أن تعرفها!

سادسا: هل مصر دولة صغيرة وعليها أن تعرف حجمها عشان تتكلم علي قدها؟

كل ما كتبته هنا وسأكتبه لاحقا يهدف إلي أن تسمع تلك الحقيقة التي لاتريد أن تعرفها أبدا، ثم لهدف أكبر هو أن نكبر فعلا ؟

ماذا يعني كل هذا الكلام؟

معناه أن مصر دولة عظيمة مرهون تألق عظمتها بشعبها، برئيسها ورجالها، إما أن يكون الشعب المصري في مرحلة ما من تاريخه يليق بهذا البلد فيرفع من مكانته ويعلي من مقامه وتقدم الأمم ويقود منطقته العربية، وإما أن يكون الشعب في مرحلة ما (مثل التي نعيشها من 28عاما) خامل الهمة خانع الروح مهدور الكبرياء منكفيا منحنيا معزولا ومنعزلا عن محيطه ومنطقته فيتراجع البلد مكانة وشأنا ويتحول إلي التباهي الممض والابتزاز العاطفي المريض، وتزوي قيمه ويصبح دوره هشيما تذروه الرياح....!


12/01/2009

ـفواً فيروزٌ ونزارٌ أجراسُ العـَودةِ لن تـُقـرَع





عـفواً فيروزٌ ونزارٌ
أجراسُ العـَودةِ لن تـُقـرَع ْ
غـنت فيروز لفلسـطين:

الآنَ، الآنَ وليس غداً
أجراسُ العـودة فلتـُقـرَعْ...
فرد عليها نزار قباني:
غنت فيروز مُغـرّدة ً
وجميع الناس لها تسمع ْ
"الآنَ، الآنَ وليس غداً
أجراس العَـودة فلتـُقـرَع ْ"
مِن أينَ العـودة فـيروزٌ
والعـودة ُ تحتاجُ لمدفع ْ
والمدفعُ يلزمُه كـفٌّ
والكـفّ يحتاجُ لإصبع ْ
والإصبعُ مُلتـذ ٌ لاهٍ
في دِبر الشعب له مَرتع ْ؟!
عـفواً فـيروزُ ومعـذرة ً
أجراسُ العَـودة لن تـُقـرع ْ
خازوقٌ دُقَّ بأسـفـلنا
من شَرَم الشيخ إلى سَعسَع ْ.

غـنت فيروزُ مرددة ً
آذان العـُرب لها تسمع ْ
"الآنَ، الآنَ وليس غداً
أجراسُ العـَودة فلتـُقـرَع ْ"
عـفواً فيروزُ ومعـذرة ً
أجراسُ العَـوْدةِ لن تـُقـرَع ْ
خازوقٌ دُقَّ بأسـفلِـنا
من شَرَم ! الشيخ إلى سَعسَع ْ
ومنَ الجـولان إلى يافا
ومن الناقورةِ إلى أزرَع ْ
خازوقٌ دُقَّ بأسـفلِنا
خازوقٌ دُقَّ ولن يَطلع ْ.

أما البرغوثي فيقول من وحي العدوان على غزة ورداً على نزار

عـفواً فيروزٌ ونزارٌ
فالحالُ الآنَ هو الأفظع ْ
إنْ كانَ زمانكما بَشِـعٌ
فزمانُ زعامتنا أبشَع ْ
من عبدِ الله إلى سَـعدٍ
من حُسْـني القـَيْءِ إلى جَعجَع ْ
أوغادٌ تلهـو بأمَّـتِـنا
وبلحم الأطفالِ الرّضـَّع ْ
تـُصغي لأوامر أمريكا
ولغير "إهودٍ" لا تركع ْ
زُلـمٌ قد باعـوا كرامتهم
وفِراشُ الذلِّ لهم مَخدع ْ

عفواً فيروزٌ ونزارٌ
فالحالُ الآنَ هو الأفظع ْ
كـُنا بالأمس لنا وَطنٌ
أجراسُ العَـوْدِ له تـُقـرَع ْ
ما عادَ الآنَ لنا جَرَسٌ
في الأرض، ولا حتى إصبع ْ
إسـفينٌ دُقَّ بعـَوْرتـنا
من هَرَم الجيزَة ْ إلى سَعسَع ! ْ
فالآنَ، الآنَ لنا وطنٌ
يُصارعُ آخِرُهُ المَطـلع ْ

عـفواً فيروزٌ ونزارٌ
أجراسُ العـَودةِ لن تـُقـرَع ْ
مِن أينَ العـودة، إخـوتـنا
والعـودة تحتاجُ لإصبَع ْ
والإصبعُ يحتاجُ لكـفٍّ
والكـفُّ يحتاجُ لأذرُع ْ
والأذرُعُ يَلزمُها جسمٌ
والجسمُ يلزمُهُ مَوقِـع ْ
والمَوقِعُ يحتاجُ لشعـْب ٍ
والشعـبُ يحتاجُ لمَدفع ْ
والمدفعُ في دِبر رجال ٍ
في المتعة غارقة ٌ ترتـَع ْ
والشعبُ الأعزلُ مِسكينٌ
مِن أينَ سيأتيكَ بمَدفع ْ؟!

عفواً فيروزٌ... سـَيّدتي
لا أشرفَ منكِ ولا أرفـع ْ
نـِزارٌ قـال مقـَولـتهُ
أكلـِّم نزاراً... فليسمع ْ:
إنْ كانَ زمانكَ مَهـزلة ًٌ
فهَوانُ اليومَ هـو الأفظع ْ
خازوقـُكَ أصبحَ مَجلسُنا
"يُخـَوْزقـنا" وله نـَركع ْ
خازوقـُكَ يشرب من دمنا
باللحم يَغوص، ولا يَشبَع ْ
خازوقـُكَ صغيرٌ لا يكفي
للعرب وللعالم أجمع
الأسم: عبد الحليم عبد الحليم
الوظيفة: صاحب دار نشر في أمريكا