الاثنين، 23 نوفمبر 2009

كل هذه الكراهية.. لماذا؟ - بقلم: عادل حمودة




كل هذه الكراهية.. لماذا؟ - بقلم: عادل حمودة
أشعل الجزائريون النار في طرف سجادة العلاقات بيننا وبينهم.. ولكننا بدلا من أن نحاصر النار في رقعة صغيرة ونمنع امتدادها سكبنا عليها البنزين.. وزدناها اشتعالا.
لم نتوقف لفهم طبيعة الشخصية الجزائرية.. لم نسرح بعيدا لدراسة أسباب العنف التي تسبح في شرايينها.. وتتحكم في جيناتها.. وتعاملنا معها باستفزاز واستهزاء لم نعد نعامل به أعداءنا وخصومنا وقاتلي أبنائنا في غزة ورفح والقدس الشريف.. فقصصنا جزءا من جسدنا ونحن نتصور أننا نقطع رقبتها.

قبل سنوات طوال عشت شهورا متفرقة في الجزائر.. وزرت مناطقها المختلفة.. من باتنة وسكيكدة وقسطنطينة في الشرق إلي وهران وتلمسان وسعيدة في الغرب.. قابلت مئات من الثوار الذين حرروها بأنهار من الدماء.. جعلت الخضرة هناك لها لون الجنة.. وكنت زبونا دائما في فندق "اليتي" الذي يقع في قلب عاصمتها التي صاغها الاستعمار الفرنسي علي مزاجه المعماري بعد أن أصر علي أن تكون جزءا من أملاكه وميراثه.

هناك التقيت بشخصيات مصرية طردها أنور السادات من رحم بلادها ووجدت في حضن الجزائريين المأوي والأمان.. مفيد شهاب.. لطفي الخولي.. وأحمد فؤاد نجم.. مثلا.. وكان اسم المهندس مصطفي موسي الذي بني معالم الجزائر الحديثة ينطق باحترام.. وبقي مكتبه في شارع "ديدوش مراد" رمزا للالتزام.

وحضرت مباراة كرة قدم بجانب الرئيس هواري بومدين في المقصورة الرئيسية بين بلادي وبلاده انتهت بتصفيق حاد لمنتخبنا القومي الذي فاز بالمباراة.. فقد كانت مكانة مصر القومية عالية قبل صلحها المنفرد في كامب ديفيد.

وعشت بنفسي خطوات التقارب التي أعادت العلاقات بين البلدين.. وتابعت عن قرب الرحلات المكوكية التي قام بها الدكتور أسامة الباز الذي كان يأتي للجزائر دون حقائب في يده.. ويشتري ملابسه من هناك يستبدل بها ما اتسخ.. ولعب محمد نسيم رئيس هيئة تنشيط السياحة وقتها دورا مؤثرا بتنظيم اسبوع للفنون الشعبية والسينمائية شارك فيه عزت العلايلي وآثار الحكيم ويوسف شاهين.. وأجريت وقتها حوارا مع الرئيس الشاذلي بن جديد رسمه الفنان جمعة فرحات.. ونشرته روز اليوسف التي كنت محررا فيها.

في ذلك الوقت لاحظت أنا وجمعة فرحات صرامة الشعب الجزائري وصعوبة أن يتقبل النكتة المصرية التي لا يستطيع مقاومتها مخلوق واحد علي ظهر الكرة الأرضية.. كما أن من المستحيل أن تجد جزائريين يضحكان معا في الشارع.. وإن كان من السهل أن تجدهما يتشاجران بأسلحة بيضاء في حي القصبة الفقير الذي كان سكانه ينامون فيه علي ورديات مثل حفلات السينما.. إن البطالة هي الخطيئة التي لم يستطع أحد تجاوزها هناك.

إن الطبيعة المتنوعة والثرية في الجزائر تجعلها من أجمل بلاد الدنيا.. لكننا.. لا نشعر بتلك الروعة لخشونة أهلها.. وهي في الحقيقة خشونة لها ما يبررها.. فقد لاحظت من متابعة الصحف الوطنية ظهور مقابر جماعية تخرج لسطح الأرض بمجرد الحفر لبناء مدرسة أو مستشفي أو مسجد أو ملعب.. مئات من الجزائريين دفنهم الاستعمار الفرنسي أحياء لمجرد أنهم طالبوه بالرحيل عن بلادهم.. لكن.. ذلك النوع الشرس من الاستعمار كان يعتبر الجزائر مزرعة العنب التي تنتج له النبيذ الذي يحتسيه مع ستة آلاف نوع من الجبن المميز يلتهمها باستمتاع مع خبز الباجت الشهير ساخنا.

لقد قال لي الرئيس هواري بومدين ــ الذي تعلم في الأزهر ومات مسموما ــ إنه كان يشعر بأن النبيذ الذي يشربه المحتل الفرنسي من كروم وهران يختلط بدماء الفلاحين الجزائريين الذين قتلوا وهم يزرعونه ويعصرونه ويخمرونه ويعبئونه في زجاجات متميزة لزبائن مطعم مكسيم الذي يعدهم بتقديم ما يطلبون من طعام مهما كان نوعه أو مكانه أو موسمه.

وقال لي الرئيس محمد بوضياف ــ الذي تولي الرئاسة في التسعينيات وقتل في شهوره الاولي للحكم ــ يجب أن تستوعبوا ما جري لنا قبل أن تحكموا علي غلاظة أخلاقنا.. " لقد دربنا الفرنسيون علي القسوة.. حرقوا جلودنا.. ونزعوا أظافرنا.. وقتلوا شيوخنا.. واغتصبوا نساءنا.. فلم يعد العنف غريبا عنا.. أصبح جزءا من طبيعتنا.. وملامحنا.. وسلوكنا.. هل هناك دليل علي ذلك أكثر من المليون ونصف المليون شهيد الذين قدمناهم قربانا للثورة دون تردد؟".

في الوقت نفسه عاملت الثورة ابناءها بصرامة تتجاوز الحدود المباحة للضعف الإنساني.. إن الرئيس الحالي للجزائر عبدالعزيز بوتفليقة كان شابا صغيرا وقت النضال.. وكاد يعدم رميا بالرصاص عندما نسب إليه أنه احب زميلته في رحلة هروب عبر الجبال وكانا بمفردهما.. ولولا أن ظهرت الحقيقة لكان في عداد الأموات.. فالثورة لم تعترف بالحب.. لم تعترف بأن المقاتل له قلب من حقه ان ينبض.. ويمكن أن تتمكن منه رغبته في لحظة ما يمكن تبريرها.. قسوة من العدو وصرامة من الصديق انتجت ما عليه الجزائريون من جهامة لم نمنح انفسنا الفرصة للتوقف عندها.

وبجانب التعذيب البدني كان هناك التحطيم النفسي.. لقد اصر المستعمر الفرنسي علي أن يطلق علي كل جزائري اسما يسبب له الأذي الشخصي.. إن اسم بومدين كان بو معزة.. مثلا.. وسمي رفاقه باسماء مشابهة.. بو خروف.. بو جحش.. وبو وبرة.

ورغم محاولات التعويض التي بذلتها حكومة الاستقلال فإن تصفية الخلافات بالقوة بقيت القانون السائد.. ولولا تدخل جمال عبد الناصر لقتل الرئيس الأول احمد بن بيلا الذي تسلمته مصر وعاش لاجئا في شقة بحي مصر الجديدة بالقرب من حديقة الميرلاند أمام الشقة التي كان يسكنها فتحي الديب رجل المخابرات المصرية الذي تولي دعم الثورات في الجزائر واليمن والعراق وإيران بالمال والسلاح والتدريب وقوة إذاعة صوت العرب.. وعرفته في سنواته الأخيرة.. وساعدته علي نشر ما تبقي من مذكراته.

وخلال الثورة كان الإسلام هوية وطنية أكثر منه ديانة سماوية.. هوية عروبية في مواجهة المسيحية الفرنسية.. وهو ما يفسر دهشة الجزائريين لوجود مسيحيين عرب.. كثيرا ما رأيت تلك الدهشة علي ملامحهم وهم لا يصدقون أن مصر بلد الأزهر فيها مسيحيون.. ولم يستوعبوا بسهولة فكرة التعايش مع الآخر.

وساعد علي تقوية العنف الديني علماء أزهريين مثل الشيخان محمد الغزالي ومتولي الشعراوي اللذين لعبا علي وتر الجهاد الإسلامي الذي تواري بعد الثورة واعادا إحياءه وتسخينه وإشعاله من جديد في جامعة قسطنطينة الإسلامية فكانت المجازر الإرهابية البشعة التي كانت بمثابة حرب أهلية جعلت رحلتي الأخيرة للجزائر ــ البلد الامن ــ سجنا في سيارة مصفحة رأيت فيها ما يجري في الشارع من وراء نافذة صغيرة متحركة تغطيها شبكة من الصلب المضاد للرصاص وإن كان غير مضاد للتفجيرات المفخخة.

لقد تعود الجزائريون علي أن العنف هو الوسيلة الوحيدة لنيل المطالب الداخلية والخارجية.. السياسية والكروية.. ولو فهمناهم لرحمناهم.. ولا يعكس العنف كراهية المصريين كما يروج محللو الفضائيات الليلية الذين لا يعرفون أوسع من خطوات أقدامهم.. لكنه.. يعكس سنوات طويلة من القسوة عاشها ذلك الشعب الذي لم يهنأ بالنعيم يوما واحدا منذ قرون بعيدة.. لا في بلاده.. ولا في بلاد المهجر.. وهو يعجز عن التخلص من تاريخه.. ويعاني من انفصام في شخصيته.. ينتمي للعروبة ويصعب عليه التحدث بالعربية.. يتشبث بالإسلام ويتطلع للحياة في بلاد الفرنجة.. يمتلك ثروات هائلة ويصعب عليه العيش في رفاهية.. يحلم بالسكينة وكل ما حوله يدعوه للقسوة.

إن الجزائريين يعتبرون الغضب ظاهرة صحية تثبت أن جهازهم العصبي لا يزال بخير وأنه ترمومتر دقيق يقيسون به درجة حراراتهم الثورية.. ولكنهم لم يدركوا بعد أن الغضب إذا خرج عن طوره تحول إلي حمي.. حمي عشوائية تدمر كل ما تصل إليه أيديهم.. دون تفرقة بين مذنب وبريء.. بين عدو يغتصب أرضهم ويستنزف ثرواتهم وماتش كرة في استاد دولة عربية شقيقة.

لقد أحزنني ما جري للمصريين في الجزائر بعد مباراته في القاهرة مع مصر.. فهم ليسوا من الروم أو الفرس أو الإسرائيليين.. هم ليسوا أعداء يجب اسرهم وضربهم وذبحهم وطردهم والمساومة عليهم.. هم بسطاء مثل الذين هاجموهم وحاصروهم وسبوهم وهددوهم.. فلا فرق بين القاتل والقتيل.. الضارب والمضروب.. الراكب والمركوب.. كلهم ضحايا لمجرمين لم يقترب منهم احد.. أشلعوا النار في أعصاب الشعبين.. لم يفهموا طبيعة الشعب الجزائري.. ولم يسعوا للتقارب معه.. وإنما أعلنوا الحرب الإعلامية والنفسية عليه.. فاسترد ذاكرة النضال وتصور أن عليه تحرير بلاده من الاستعمار المصري الذي هزمه في ماتش كرة ونال من كرامته الوطنية بين ثلاث خشبات.

إن من تابع ما جري في القاهرة يوم المباراة لابد أنه تذكر مشاهد ما قبل حرب يونيه 1967.. سيارات نصف نقل تحمل المشجعين.. أعلام في يد كل واحد منهم.. أغان وطنية لا تذاع إلا في الحروب.. لافتات حماسية تدعو لتحرير الكرة المصرية من يد المغتصب الجزائري.. معركة نصرتنا فيها مشيئة السماء قبل أن نعود إلي بيوتنا حزاني مقهورين مهزومين.

لكن.. النتيجة المؤسفة أن النار اشتعلت في سجادة الصلاة التي يقف عليها الشعبان المصري والجزائري داعين الله أن يأتي اليوم ونري فيه الانتصار الأكبر.. تحرير القدس من الأحذية الثقيلة التي تخنق أنفاسها ومساجدها وكنائسها وحدائقها.

اشتعلت النار في تلك السجادة.. وبهت النقش العربي عليها.. بل واختفي من صرتها.. ودخلت إسرائيل عصرها الذهبي.. عصر يضرب فيه العرب بعضهم البعض بالأحذية.. ويحرقون أعلامهم.. ويحاصرون شركاتهم.. ويتعدون علي مواطنيهم.. ويسبون أنفسهم وهم يتصورون أنهم يشتمون غيرهم.

لقد أعادتنا مباراة لن توصلنا إلي كأس العالم مهما فعلنا وكافحنا ولعبنا إلي الوراء.. إلي عصر الدوقيات.. والاقطاعيات.. والانقسامات.. أرجعتنا إلي نقطة الصفر.. كنا قبل هذه المباراة نبحث عن قاسم مشترك يجمعنا فإذا بها تزيدنا انقساما وقطيعة وغربة.. كنا قبلها نبحث عن استراتيجية مواجهة عربية ضد إسرائيل فإذا بها تجبرنا علي تشكيل مواجهات ضد انفسنا.

من يوقف الانتحار العربي السريع.. المريع؟.. من يأخذ المسدس المصوب إلي قلوبنا جميعا ويفرغ ما فيه من رصاصات قاتلة؟.. إن العنف الذي انفجر كوحش كسر سلاسله الحديدية لابد من إعادته إلي قفصه حتي لايأكلنا جميعا.. فكل شيء في الدنيا قابل للتنظيم بما في ذلك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق