الأحد، 3 مايو 2009

كيف دخلت مصر القفص؟ - بقلم د.حسن نافعة


كثيرة هى اللحظات التى يخلو فيها الإنسان إلى نفسه متأملا أحوال بلاده دون أن تكون هناك مسألة محددة أو قضية معينة تشغل ذهنه أو تستدعى تأملا أو بحثا أو تحليلا.
ولا عجب فى ذلك، فأحوال مصر وسياستها الرسمية فى الداخل والخارج تثيران قلقا حقيقيا لدى كل مهتم أو مهموم بمستقبل هذا البلد الفريد، وهو قلق بدأ يزداد ويتسع نطاقه فى الآونة الأخيرة، ولم يعد مقصورا على المصريين وحدهم، أو حتى على العرب، وإنما بدأت دائرته تتسع كثيرا، خصوصا بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، لتشمل حلفاء لم يعودوا يفهمون دوافع النظام وأهدافه الحقيقية.

أما أسباب هذا الاهتمام المتجدد بالشأن المصرى العام، والمصحوب بالقلق البالغ من تطوراته، فيعود إلى أسباب كثيرة ربما كان أهمها، فى تقديرى، سببين،

الأول: الاندفاع الواضح فى سلوك نخبة معينة داخل النظام، عند معالجتها لقضايا حساسة تتعلق بالشأن الخارجى، كأنها تنتمى إلى «محافظين جدد» على الطريقة المصرية، مع استمرار تدهور الأحوال المعيشية وتدنى مستوى الأداء فى الخدمات والوظائف العامة لمؤسسات الدولة فى الوقت نفسه، واتجاههما لمزيد من التدهور والتدنى فى ظل الأزمة الاقتصادية العالمية الطاحنة.

السبب الثانى: استمرار حالة من الغموض وعدم اليقين تحوم منذ فترة ليست بالقصيرة حول مستقبل مصر وسياساتها فى مرحلة ما بعد مبارك فى ظل تعقيدات سياسية ودستورية ومؤسسية لا نظير لها فى تاريخ مصر الحديث.

لفت نظرى مؤخرا، من خلال حوارات جانبية عادة ما تدور فى المناسبات الاجتماعية، أنه ما إن يبدأ نقاش حول الأوضاع العامة فى المنطقة حتى يتجه تلقائيا، وبسرعة، إلى الحالة المصرية، لينتهى دائما بنتيجة شديدة التشاؤم بمجرد أن يتطرق النقاش إلى احتمالات التغيير فى مصر.

وحين يصل النقاش إلى هذه النقطة تستبد الحيرة بالحضور ويصل اليأس مداه من الأمل فى إخراج مصر مما هى فيه، والذى بات أخطر مما توقعته أكثر الكوابيس جنوحا، وهو خطر يقر الجميع بأنه لم يعد يهدد مستقبل مصر وحدها وإنما مستقبل المنطقة بأسرها.

لا أعرف لماذا قفز إلى ذهنى، حين رحت أتأمل ما وصلت إليه الأحوال الآن، مشهد «عشة الفراخ» فى ريف مصر الذى أعشقه وقضيت فيه أجمل سنوات الطفولة والشباب.

وعندما بدأت فى استعادة المشهد الذى اختزنت الطفولة تفاصيله فى ركن ما من الذاكرة، وجدت أنه قابل للمقارنة بما يحدث فى مصر الآن، على الأقل من زوايا معينة.

ولأن مجتمع «عشة الفراخ» هو مجتمع مركب، وليس بسيطا كما قد يتصور البعض، فهو لا يختلف كثيرا عن أى مجتمع بشرى، فبالإضافة إلى «الكتاكيت» الصغيرة التى تسير فى ركاب أمهات عادة ما تكون هادئة ومستكينة ومنشغلة بإطعام ورعاية صغارها أكثر من انشغالها بأى شىء آخر، توجد دائما نخبة من «الديكة» تحس بتميزها وتمشى وسط أقرانها مختالة وواثقة من نفسها.

ولأنه يصعب ضمان سلوك هذه «القلة المشاغبة» إذا تأخر عنها الطعام أو لم تعثر على ما يكفى منه، يمكن توقع منها أى شىء بما فى ذلك القفز لاختطاف الطعام أو حتى الاعتداء بمنقارها الطويل على المربية نفسها!.

لذا كنت ألاحظ دائما أن كل مربية، خصوصا إذا كانت حديثة العهد وليس لديها معرفة كافية بطباع سكان العشة، تحرص على اكتساب مهارات خاصة قبل أن يصبح بمقدورها ترويض هذا المجتمع المشاغب وتتمكن من السيطرة على الوضع وتطمئن تماما إلى أن الجميع يدخلون ويخرجون من الأقفاص المخصصة لها، وفى المواعيد المحددة، ودون أى إخلال بالأمن العام!.

كانت الصدفة تتيح لى فى طفولتى أحيانا متابعة طريقة المربية فى تعلم فنون السيطرة على «العشة» ومراقبة أسلوبها فى تنويع الأدوات التى تستخدمها واستحداث أدوات جديدة تتطور مع الوقت، فأحيانا تلجأ إلى عزل الديكة المشاكسة فى قفص خاص لأوقات محددة، كنوع من العقاب، وأحيانا أخرى تغريهم بكميات أكبر أو أنواع أفضل من الطعام، وقد يصل الأمر بها إلى حد تركهم يتجولون بحرية خارج نطاق «العشة» بحثا عن مزيد طعام أو للقيام بمغامرات يدفعهم إليها فائض طاقة أو فائض حاجة، ولكن بعد أن تكون قد اطمأنت تماما إلى أنهم سيعودون إلى «القفص» طال الوقت أم قصر.

بدا لى، حين تذكرت هذا المشهد، أننى عثرت على «نظرية» قادرة على تفسير ما جرى لمصر وفيها خلال الأعوام الثلاثين الماضية، واستغربت حين وجدتنى شبه مقتنع بأن مشهدا مستوحى من ذاكرة الطفولة يمكن أن يرسم ملامح لنظرية أكثر قدرة وكفاءة على تفسير بعض الظواهر الاجتماعية من كل نظريات العلوم السياسية التى أفنيت معظم سنوات عمرى فى محاولة استيعابها.

وعندما وصلت إلى هذه النقطة فى تسلسل الخواطر المتدفقة، قلت لنفسى مازحا: لماذا لا تطلق عليها «نظرية عشة الفراخ» وتطلب من أحد تلاميذك أن يعد حولها رسالة ماجستير كى تضمن أنها ستقترن باسمك وتذكر منسوبة إليه فى كل الكتابات التالية؟ وانطلقت منى قهقهة استيقظت من خيالاتى على وقعها.

وحين عدت إلى صوابى ألحت علىّ من جديد صورة قفص كبير وبداخله شعب مصر كله، ووجدتنى أهتف متسائلا، لكن بمنتهى الجدية هذه المرة: كيف استطاع حاكم وصل إلى السلطة بطريق الصدفة أن يروض بلدا بهذا الحجم إلى درجة تمكنه ليس فقط من البقاء فى الحكم لما يقرب من ثلث قرن وإنما لتوريثه لابنه من بعده؟!

حين رحت فى إغفاءة جديدة ألح على مشهد المنصة عندما سقط الرئيس السادات صريعا فى 6 أكتوبر 81، بعد أن تلقى فى صدره وابلا من رصاص جنوده المشاركين فى العرض العسكرى. استدعيت نظريتى الجديدة لأختبر قدرتها على التفسير فأشارت لى بأن «رب العائلة» لم يتمتع بما يكفى من المرونة لتجنب إغضاب «الديكة» فهجموا عليه إلى أن أردوه قتيلا.

وحين انتهيت من استعراض ما حدث لمصر بعد ذلك على مدى ثلاثين عاما، ورحت أدقق النظر فى المشهد الراهن وجدت شعب مصر فى قفص كبير وفى حالة خضوع تام لنظام صارم يسمح له بالخروج منه فى مواعيد محددة، لتناول طعامه وقضاء حاجته ثم العودة إليه وكأنه استمرأ البقاء فيه رغم كل الصياح الذى يعلو من بين صفوفه بين الحين والآخر.

وكان من الطبيعى أن أتساءل عما إذا كان السبب فيما نحن فيه يعود إلى عبقرية رئيس جديد تمكن من اكتساب واستيعاب كل المهارات والفنون لإدارة «العشة» على نحو يضمن ترويض «الديكة»، أم أن المشكلة تكمن فى شىء آخر أدى إلى تخلى «الديكة» عن أدوارها واكتفى بالمشاركة فى تربية الكتاكيت فى هدوء، إيثارا للسلامة؟

ما زلت أذكر أول خطاب ألقاه الرئيس مبارك فى الجلسة المشتركة لمجلسى الشعب والشورى عقب حادث «المنصة».

كان جميلا وقويا وبدا وكأنه عثر على النغمة الصحيحة التى انتظر الشعب سماعها منذ فترة طويلة، فقد تحدث عن «عفة اللسان وطهارة اليد»، وتحدث عن «الكفن الذى ليس له جيوب» وعن أشياء أخرى أراحتنا كثيرا، منها أنه لا ينوى البقاء فى السلطة لأكثر من ولايتين، تصورنا بعدها أن مصر عثرت أخيرا على رجل زاهد فى متاع الدنيا، وعينه على الآخرة، وليس حريصا على جاه أو سلطان.

ولأن مصر كانت فى أمس الحاجة إلى رجل يصلح ما أفسد غيره ويضع نظاما فعالا لدولة حديثة تقوم على القانون وتسمح بتداول حقيقى للسلطة، أى إلى «مدير» منجز وليس إلى زعيم ملهم، فقد تصور كثيرون، وأنا واحد منهم، أن مصر عثرت أخيرا على ما تبحث عنه وتراه مناسبا لمرحلة ما بعد السادات.

وكتبت مقالا بهذا المعنى فى صحيفة الأهرام الاقتصادى، وكان أول مقال لى على الإطلاق بعد عودتى من البعثة الدراسية. وقتها تحمس كثيرون للعمل العام.

فى عام 84 خضت انتخابات مجلس الشعب مرشحا عن التجمع فى دائرة البحيرة، وشاهدت بنفسى كيف تصمم القوانين خصيصا وتزور الانتخابات لتزيف إرادة الشعب. وحين تبين لى أن الأمور لا تسير فى الاتجاه الذى أعتقد أن مصر كانت تطمح إليه، كتبت مقالا بعنوان «نظام فى مأزق» نشر فى صحيفة «الأهالى» عام 1987.

ومع ذلك كان كثيرون على استعداد لأن يغفروا للنظام بعض «أخطاء» وليس خطايا، إلى أن يتم تحرير آخر حبة رمل فى طابا، وهو ما تم عام 1989.

لكن ما جرى بعد ذلك يصعب تصوره أو وصفه أو تفسيره، فقد نسى الرئيس مبارك كل ما قاله عن طهارة اليد وفترات الولاية، ونجح تدريجيا فى تحزيم البلاد وتقزيمها ووضعها فى القفص لا ليتمكن فقط من البقاء فى السلطة لأطول فترة ممكنة، ولكن لينقلها لابنه من بعده.. فكيف حدث ذلك؟ وهل نلوم الرئيس مبارك أم نلوم أنفسنا؟ هذا ما سنحاول أن نوضحه فى مقالات قادمة.
المصري اليوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق