الأحد، 26 أبريل 2009

سياسة الهروب إلى الأمام



بقلم د.حسن نافعة ٢٦/ ٤/ ٢٠٠٩
كان واضحاً لكل متابع للشأن الإسرائيلى، خصوصاً بعد أن اتضحت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، أن الحكومة الإسرائيلية التى ستعقب حكومة أولمرت ستكون أكثر يمينية وتطرفاً من سابقتها، وأن بنيامين نتنياهو بات المرشح الأوفر حظاً لرئاساتها، وأن حزب «إسرائيل بيتنا» بقيادة أفيجدور ليبرمان قد يصبح رمانة الميزان فيها، وسيلعب من ثم دوراً محورياً فى صياغة سياستها الخارجية، خاصة ما يتعلق منها بالصراع العربى ـ الإسرائيلى.

وانطلاقاً من إحساس ذاتى بخطورة ما هو قادم كتبت مقالاً بعنوان: «ماذا ستفعل مصر مع حكومة نتنياهو ـ ليبرمان» نُشر على هذه الصفحة فى ٢٢ مارس الماضى، أى قبل الإعلان رسمياً عن تشكل الحكومة الإسرائيلية، تناولت فيه نشأة ليبرمان الذى وُلد فى إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق،

وهاجر إلى إسرائيل عام ١٩٧٨ حين كان عمره لا يزيد على عشرين عاماً، وكيف استطاع هذا المغامر أن يصبح خلال فترة زمنية قصيرة جداً واحداً من أهم الشخصيات السياسية فيها، وقمت بتحليل أهم مفردات خطابه الأيديولوجى المتمحور حول فكرة الولاء لإسرائيل كشرط للمواطنة فى دولة لا مكان فيها إلا لقومية واحدة، وهى الفكرة التى يؤسس عليها دعوته لترحيل «عرب ٤٨»، ونظرته إلى النواب العرب فى الكنيست كعملاء وخونة يستحقون الطرد من «البرلمان» والسجن، وربما الإعدام أيضا.

كما تعرضت فى هذا المقال لموقف ليبرمان من مصر والأسباب التى تدعوه للاعتقاد بأنها لاتزال تشكل مصدر التهديد الرئيسى لأمن إسرائيل، موضحاً كيف ذهب فى عدائه لمصر ورئيسها بعيدا إلى حد التهديد بضرب السد العالى وتوجيه إهانات شخصية إلى الرئيس مبارك!.

ولأن وسائل الإعلام كانت قد بدأت تطلق فى ذلك الوقت تكهنات تشير إلى أن ليبرمان أصبح المرشح الأقوى لشغل منصب وزير الخارجية، فقد وجدتُ أن من واجبى مناشدة الحكومة المصرية عدم استخدام الليونة فى التعامل مع حكومة يدير سياستها الخارجية شخص مثل ليبرمان، وأن تعلن بوضوح رفضها استضافته قبل تقديم اعتذار علنى ورسمى لشعب مصر ولرئيسها، وقبل أن يعلن التزامه بحل الدولتين وتعهده بعدم المساس بفلسطينيى ٤٨،

كما ناشدتها أن تعلن بوضوح رفضها المعايير المزدوجة فى التعاطى مع صراع الشرق الأوسط، وأن تنبه العالم أجمع إلى عدم جواز معاقبة جهة انتخبها الشعب الفلسطينى، بدعوى أنها لا تعترف بإسرائيل أو بالاتفاقات الموقعة مع السلطة الفلسطينية، والتسامح فى الوقت نفسه مع رئيس حزب رفض اتفاق أوسلو، ويعمل جاهدا لطرد عرب ٤٨، وضرب السد العالى، بدعوى أنه جاء عبر انتخابات ديمقراطية.

وقد اختتمت المقال المشار إليه بالتأكيد على ضرورة أن تتخلص مصر من عقدة الخوف التى تتحكم فى علاقتها بإسرائيل والسعى لتبنى سياسات أكثر قدرة على الدفاع عن المصالح الوطنية والقومية.

فى سياق كهذا من الطبيعى أن تشعرنى الزيارة التى قام بها الوزير عمر سليمان لإسرائيل يوم الأربعاء الماضى بأسى حقيقى لاعتقادى بأنها تشكل خطوة فى الاتجاه الخاطئ، أما أسبابى فى ذلك فهى كالتالى:

١ ـ أن برنامج الزيارة تضمن لقاء مع ليبرمان دون اشتراط تقديمه اعتذارا علنيا للدولة المصرية ورئيسها، والإعلان صراحة عن التزامه وحكومته بحل الدولتين وبعدم المساس بحقوق وأوضاع العرب الفلسطينيين فى إسرائيل. صحيح أن اللقاء بين الرجلين تم فى تكتم شديد ولم تشر إليه المصادر المصرية، رغم تأكيد المصادر الإسرائيلية الرسمية والعالمية عليه.

ولا يخفف من وقع إحساسنا بالخزى ما يساق من حجج لتبرير هذا التصرف وتسويقه كأن يقال إنه تم فى إسرائيل وليس على تراب مصر، وفى مكتب رئيس الوزراء وليس وزير الخارجية، فكلها حجج ومبررات فاسدة وعقيمة لا تستحق الالتفات إليها.

٢ ـ أن الذى قام بالزيارة ليس شخصية عادية أو ثانوية، لأن الكل يدرك أهمية الوزير عمر سليمان ليس فقط بحكم حساسية المنصب الذى يشغله كرئيس لجهاز المخابرات العامة، ولكن أيضا باعتباره الشخصية الأهم بعد شخصية الرئيس، والتى ترشحها جميع التكهنات لخلافته (فى حالة تعذر تمرير مشروع التوريث طبعاً).

٣ ـ أنها تبدو خطوة متعجلة ومندفعة وغير مبررة سياسياً، ومن ثم يبدو ضررها أكثر من نفعها لسبب بسيط، وهو أنها قد تساعد، دون مقابل واضح وملموس، على تبييض وجه حكومة يراها العالم متطرفة ولا تستحق أى تشجيع.

ولأن الكثير جدا من المحللين السياسيين يرون أنها حكومة لن تصمد طويلا، وبالتالى يتوقعون سقوطها بسرعة، فمن الطبيعى أن ينظر كثيرون إلى هذه الزيارة باعتبارها خدمة مجانية مقدمة لحكومة لا تستحق، وهو ما يثير الكثير من علامات الاستفهام وربما التعجب أيضا.

وفى تقديرى أن هذه الخطوة إن دلت على شىء فإنما تدل، ضمن أشياء أخرى كثيرة، على أن مصر لاتزال تمارس سياسة الهروب إلى الأمام، وأن هذه السياسة أوصلتها إلى مأزق لا فكاك منه. وفى تقديرى أنه ما لم تنتبه مصر إلى حتمية الإقدام بجسارة على تغيير هذه السياسة، وفى أسرع وقت ممكن، فسوف تفضى بها وبالمنطقة كلها إلى هاوية سحيقة.

لو كان لدى الدبلوماسية المصرية ما يكفى من الحكمة والشجاعة وقوة البصيرة لمراجعة سياساتها ومواقفها تجاه عملية السلام، لاكتشفت على الفور أن إسرائيل تعاملت مع التنازلات التى قدمتها مصر لدفع عملية السلام فى مراحل مختلفة من تطور الصراع باعتبارها مواقف أملاها عليها ضعفها وهوانها وعدم توافر بدائل أخرى.

لذلك يلاحظ أنه فى كل مرة قدمت مصر تنازلات مجانية فسرتها إسرائيل على أنها دليل ضعف، ومن ثم لم ترد عليها بأحسن منها وإنما بطلب المزيد من التنازلات. فحين أقدم الرئيس السادات على زيارة القدس عام ٧٧ تعاملت إسرائيل مع خطوته الجبارة باعتبارها علامة ضعف أو إشارة لاستعداده القبول بتسوية منفردة.

دليلنا على ذلك ان إسرائيل لم تعر خطاب السادات فى الكنيست أى اهتمام، حين راح يؤكد على أنه لم يأت باحثا عن تسوية منفردة من موقع الضعف، وإنما جاء باحثا عن تسوية شاملة من موقع القوة، وتعاملت معه باعتباره لغوا موجها للاستهلاك المحلى فى العالم العربى.

وتمكنت إسرائيل بالفعل من الانحناء للعاصفة التى فجرتها مبادرة القدس، واحتواء ما ولّدته من ضغوط هائلة للتوصل إلى تسوية سلمية، وتمسكت بموقفها الرامى إلى إخراج مصر من معادلة الصراع العسكرى إلى أن نجحت فى تحقيق هدفها بالكامل، ثم راحت تطلب المزيد من مصر فى كل انعطافة مرَّ بها الصراع العربى ـ الإسرائيلى، إلى أن وصلنا إلى الحالة التى أصبحت عليها مصر الآن حين وجدت نفسها تقف مكتوفة الأيدى فى مواجهة مجزرة إسرائيلية وحشية على حدودها مع قطاع غزة الذى كانت تديره يوما ما، ومازال العديد من أبنائه يحملون جنسيتها حتى يومنا هذا.

ومن المفيد للدبلوماسية المصرية بلا جدال أن تتذكر تجربتها المريرة مع نتنياهو حين وصل إلى السلطة لأول مرة فى يونيو عام ١٩٩٦ عقب اغتيال رابين.

فقد منحته مصر الفرصة وتعاملت معه بحسن نية، لكنه ظل مع ذلك يراوغ ويراوغ إلى أن تمكن فى النهاية من قلب معادلة التسوية رأسا على عقب، وحوّلها من معادلة تقوم على مبدأ «الأرض مقابل السلام» إلى معادلة تقوم على مبدأ «الأمن مقابل السلام». وفى تقديرى أنه إذا استمرت الأمور على هذا النحو فسوف يتمكن نتنياهو فى النهاية من فرض «السلام الاقتصادى» كبديل عن «حل الدولتين».

بل إنى لا أستبعد إذا استمر الحال على ما هو عليه أن تجد مصر نفسها وقد انزلقت رويدا رويدا نحو المشاركة، بشكل مباشر أو غير مباشر، فى حرب ضد إيران وحزب الله وحماس والجهاد بدعوى أنها باتت تشكل محورا للتطرف والإرهاب يصعب تحقيق السلام فى ظل استمرارها.

فهل هى مستعدة لذلك؟ للأسف يبدو أنه لم يعد أمام مصر سوى مواصلة طريق الهروب إلى الأمام، فتغيير السياسات لا يتم عادة إلا فى نظم تتوافر لديها إمكانية تحقيق تداول السلطة، وهو ما لا يبدو متاحا فى الحالة المصرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق