الأربعاء، 22 أبريل 2009

بفلوسنا نرد الروح للخواجـات - بقلم: محمود عوض

تلاحقت خلال الأشهر الأخيرة احتقانات متتابعة فى حياة الناس أساسها عدم القدرة على مواجهة حالات الانفلات فى الأسعار، وعجز الدخول والمرتبات عن التكيف مع ما يجرى.

وحينما بدأت أزمة رغيف العيش قالت الحكومة إن السبب هو ارتفاع أسعار القمح عالميا. مع عودة تلك الأسعار إلى الانخفاض استجدت مشكلة جديدة هى ارتباط عمليات استيراد القمح بفساد متزايد نتج عنه استيراد أنواع رخيصة من القمح قد تصلح لعشرين غرضا لكن ليس من بينها صناعة رغيف العيش. الأزمة مستمرة بغير أن يعود أحد إلى السؤال البديهى: لماذا لا نخطط لزيادة إنتاجنا من القمح، خاصة أنه الأجود لرغيف الخبز؟

أزمة القمح لحقت بها أزمة فى محصول القطن الذى تراجعت زراعته فى مصر بشكل لم يحدث طوال سبعين سنة. وحتى المصانع المحلية للغزل والمنسوجات جرى دفعها إلى استيراد أقطان قصيرة التيلة لأنها الأرخص، وهو ما أصبح بدوره عاملا إضافيا فى انهيار تلك الصناعة المصرية العريقة. وحينما احتاج الأمر إلى 350 مليون جنيه إسعافا عاجلا لتلك الصناعة تململت الحكومة بحجة عدم وجود موارد كافية فى الميزانية.

كانت تلك هى نفس الحجة التى استخدمتها الحكومة فى مواجهة مستحقات المدرسين والأطباء وأساتذة الجامعات والعمال وشرائح عريضة من الناس: الميزانية لا تسمح. بل إن الدكتور يوسف بطرس غالى، وزير المالية، طرح مؤخرا فى مجلس الشعب خيارات أربكت الجميع، أولها أن على مجلس الشعب أن يختار ما بين صرف العلاوة الاجتماعية للعاملين فى الدولة، وتخفيض قيمتها لتشغيل من فقدوا وظائفهم بسبب الأزمة المالية العالمية.

وأضاف الوزير فى بيانه أمام لجنة الخطة والموازنة: إن التحدى الأكبر أمام الحكومة هو التشغيل لأن كثيرا من المصانع سرحت عمالها، وعدم قدرة الحكومة على فرض ضرائب جديدة أو زيادة الأسعار فى ظل حالة الانكماش الاقتصادى. وقال أيضا إن الظروف فرضت على الحكومة زيادة عجز الميزانية ليصل إلى نحو مائة مليار جنيه فى ظل تراجع الصادرات، وانخفاض دخل قناة السويس، وتحويلات المصريين فى الخارج، وكذلك الدخل من السياحة.. وهو ما أدى إلى زيادة حجم الدين المحلى ليتجاوز 770 مليار جنيه.

وسط تلك التطورات والأرقام المتلاحقة خرج علينا وزير المالية بمشروع مدهش تحمس له وتابعه بنفسه ليشق طريقه إلى التنفيذ بسرعة أغرب. المشروع هو استبدال 34 ألفا من سيارات التاكسى القديمة بأخرى حديثة. وصرح المهندس ماجد جورج، وزير الدولة لشئون البيئة، بأن هذا «هو المشروع القومى الذى تبنته الحكومة». لكن الدكتور يوسف غالى وزير المالية ابتعد عن تلك التسميات الكبيرة ليكون عمليا ومباشرا.

وهكذا حشد الوزير ثلاثة بنوك هى، البنك الأهلى وبنك مصر وبنك الإسكندرية لتوفير قروض على وجه السرعة بفوائد منخفضة لأصحاب سيارات التاكسى التى يتم تخريدها أيا كانت حالتها الفنية مقابل خمسة آلاف جنيه، يتم خصمها من ثمن السيارة الجديدة مع تسهيلات أخرى فى السداد. وفى 9/4/2009 حرص الوزير على حضور احتفال مهيب بتسليم الدفعة الأولى من السيارات الجديدة إلى أصحابها، وعددهم 32، وصولا إلى الرقم المستهدف وهو 34 ألف سيارة جديدة كمرحلة أولى تليها مراحل أخرى.

حسب التصريحات الرسمية فإن وزارة المالية ستتحمل 1400 مليون جنيه فى هذا المشروع. أكرر: ألف وأربعمائة مليون جنيه تتحملها الخزانة العامة دعما لاستبدال تاكسيات قديمة بأخرى جديدة من خلال إعفاءات جمركية لمكونات السيارات التى هى أصلا مستوردة، والتنازل عن ضريبة المبيعات التى كانت ستتقاضاها و.. و.. فى الخلاصة نجد نفس الحكومة التى تشكو لطوب الأرض من قصور مواردها تتطوع فجأة بالتنازل عن 1400 مليون جنيه مرة واحدة فى سبيل «مشروع قومى» حسب قول رسمى أو فى سبيل «تحسين صورة مصر السياحية» فى قول رسمى آخر أو «حماية البيئة من التلوث» حسب قول ثالث.

لو كانت تلك السيارات صناعة محلية لاستقام الأمر قليلا، ففى نهاية المطاف سيمثل هذا دعما لصناعة وطنية بعمالها ومهندسيها. لكن هذا يجرى بالضبط فى نفس الوقت الذى تمضى فيه الحكومة بكل همة فى تصفية شركة النصر لصناعة السيارات، وهى أقدم وأكبر منتج للسيارات والأوتوبيسات واللوارى فى مصر والمنطقة منذ نحو نصف قرن. كذلك سرحت الآلاف من عمالها ومهندسيها فأضافتهم إلى سوق البطالة من ناحية وأهدرت فى لحظة كل خبراتهم من ناحية أخرى.

وفى ظروف اقتصادية عصيبة كالتى نواجهها كان يمكن للحكومة أن تدعم الشركة لتحصل على حق تصنيع طراز مختار من السيارات الأجنبية (كما جرى سابقا مع شركة فيات الإيطالية) يكون هو الأساس فى تحديث سيارات التاكسى بشكل موحد. كانت الحكومة بذلك ستضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، أولا بأقل كثيرا من 1400 مليون جنيه كنا سندعم صناعة وطنية -نحن نجحنا فيها سابقا- إلى درجة تصنيع 55 % من مكونات السيارات و85 % من مكونات الأوتوبيسات واللوارى محليا فى مقدمتها الموتور وآلة الجر وهما أهم المكونات. ثم إن هذا يوفر فرص عمل إضافية زائد أنه يحمى فرص عمل قائمة. فوق هذا وذاك فإن صناعة السيارات تحديدا تخلق بجوارها عشرات الصناعات المغذية، التى تواجدت فى مصر بكفاءة طوال خمسة عقود.

لكن.. أبدا، وزارة المالية اختارت تحديدا خمسة وكلاء لخمس شركات أجنبية لكى يوفروا هم السيارات المطلوبة للمشروع الجديد. بكلمات أخرى: اختارت الوزارة خمسة مستوردين لكى يحصلوا على الدعم الجديد لصالح الشركات الأجنبية التى يمثلونها. وأحيانا يقال إن هؤلاء المستوردين سيستوردون مكونات السيارات، هذا صحيح لكنهم سيقومون بتجميعها فى مصر، فيما يسميه الخبير على نجيب بـ«صناعات ربط المفك» التى كل مهمتها تجهيز الإنتاج الأجنبى للتسويق فى السوق المحلية.

من أجل هؤلاء تتنازل وزارة المالية عن الرسوم الجمركية التى كانت ستتقاضاها، وعن حصيلة ضريبة المبيعات المستحقة لها و.. و.. إجمالا ألف وأربعمائة مليون جنيه من أموال دافعى الضرائب زائد التزام ثلاثة بنوك باستخدام ودائع المصريين لإقراض أصحاب سيارات التاكسى الجديدة. وبدلا من دعم شركة النصر لصناعة السيارات بعمالها ومهندسيها ومصانعها الموجودة فعلا تدعم الحكومة المصرية -عينى عينك- خمس شركات أجنبية.

وزاد على ذلك إعلان وزارة المالية عن تخفيض جديد فى الرسوم الجمركية للسيارات المستوردة من الاتحاد الأوروبى بنسبة عشرة بالمائة. هل هذا يعقل من حكومة تعلن هى نفسها أن العجز فى الميزانية سيصل فى هذه السنة إلى مائة مليار جنيه؟ وأنها لا تملك موارد لتحسين حال المدرسين والأطباء وأساتذة الجامعات، ولا حتى لتمويل العلاوة الاجتماعية السنوية؟

وسؤال آخر: لماذا سيارات التاكسى تحديدا؟ فى عواصم بحالة وحجم القاهرة يركز التخطيط الرشيد على رفع كفاءة النقل العام قبل الخاص. أوتوبيس واحد جديد مثلا يقوم بعمل ستمائة سيارة ويرحم الناس من العذاب الحالى الذى يواجهونه يوميا زائد أنه يخفف من زحام المرور الذى أصبح مختنقا بالساعات يوميا. وفى سنة 2007 مثلا خفضت الحكومة الرسوم الجمركية على السيارات المستوردة فقفز المستورد منها فورا إلى 220 ألف سيارة فى سنة واحدة بغير أن نفكر فى مدى قدرة شوارعنا على استيعاب ذلك التدفق الإضافى، وأيضا بغير أن نشير إلى مئات الملايين من الدولارات التى دفعناها بمزيد من الاستدانة وننقل عبء تسديدها إلى جيل قادم لا ذنب له فيما نفعله.

وفى مدن كبرى بحجم نيويورك ولندن وباريس مثلا تعطى الحكومات أولوية مطلقة لتوفير شبكة للنقل العام تجمع بين الكفاءة والانضباط والنظافة. الموظف فى تلك المدن لا يذهب إليها بسيارته الخاصة وإنما هو يسكن فى الضواحى ويترك سيارته عند أول محطة ليستقل المترو أو الأوتوبيس إلى قلب المدينة ذهابا وإيابا. لكننا فى مصر أصبحنا نشجع بكل همة استيراد السيارات الأجنبية فى نفس اللحظة التى تركنا فيها أوتوبيسات النقل العام تتدهور وتتناقص وتتآكل وتتعطل فيهرب منها السائقون والركاب معا. وترفض وزارة المالية توفير أى اعتمادات لشراء أوتوبيسات جديدة للنقل العام بحجة العجز فى الميزانية.

لم نفكر لحظة فى إعادة تشغيل مصانع النصر للسيارات لإنتاج احتياجنا من الأوتوبيسات كما جرى سابقا. نفكر فقط فى تصفية الشركة وشطبها من دورتنا الإنتاجية، ربما لبيع معداتها وأراضيها بسعر التراب كما اعتادت حكومتنا الرشيدة أن تفعل تحت عنوان «الخصخصة».

ولو كان الدكتور يوسف بطرس غالى، وزير المالية، قد أعطى ربع اهتمامه بمشروع سيارات التاكسى إلى إعادة الحياة لصناعة السيارات والأوتوبيسات الحقيقية فى مصر لكان قد أضاف إلى الاقتصاد المصرى وإلى موارد وزارته الشىء الكثير. لكننى تذكرت أنه واحد من فريق يرفض لوجه الله والعولمة كل ما هو قطاع عام، ملخصا ذلك ذات مرة بقوله «إن الحكومة المصرية مستمرة فى تفكيك القدر الأكبر من القطاع العام الذى يمثل مصدر الحماية وانعدام الكفاءة». تصريحات قالها الوزير فى واشنطون ونشرتها له جريدة الأهرام فى 14/4/2007.

لكن العالم يتغير. أمريكا نفسها تتغير، ومن كانوا يلحون علينا بالخصخصة وبفتح الأسواق هم الذين أصبحوا يحللون لأنفسهم «التأميم» ويتفننون فى حماية إنتاجهم الوطنى من منافسة ومزاحمة المستورد كلما ناسبهم ذلك. لكن أعضاء «جماعتنا» ثابتون على المبدأ بما جعل آخر ابتكارات وزير ماليتنا هى التنازل عن 1400 مليون جنيه لاستيراد سيارات تاكسى نباهى بها العالمين. ألف وأربعمائة مليون جنيه كانت كفيلة برد الروح إلى صناعة السيارات والأوتوبيسات والغزل والنسيج وعشرات أخرى من ركائز الاقتصاد المنتج الموفر لمئات الآلاف من فرص العمل تنقذ شبابنا من كابوس البطالة.
فلوسنا الآن أصبحت ترد الروح فعلا.. لكن للخواجات. أهذا كلام رشيد؟
Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق